للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصالحين، تتحرك همتها في طلب العزلة، والإقبال على معاملة الله تعالى.

فقلت لها يومًا وقد كلمتني في ذلك: حدثيني، ما مقصودك؟! وما نهاية مطلوبك؟! أتراك تريدين مني أن أسكن قفرًا لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه، وأن آكل الجشب١ الذي لم أتعوده، فيقع نضوي٢ طلحًا٣ في يومين، وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه، فلا أدري من كرب محمولي من أنا، وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي، مع بقاء القدرة على الطلب؟! بالله، ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك!

٢٤٨- وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم: اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها، لم تصل براكبها إلى المنزل، وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات، وإنما أعني أخذ البلغة٤ الصالحة للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوى الذهن.

ألا ترين٥ إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان"، وقاس العلماء على ذلك الجوع، وما يجري مجراه من كونه حاقنًا أو حاقبًا٦؟! وهل الطبع إلا ككلب يشغل الآكل، فإذا رمى له ما يتشاغل به، طاب له الأكل؟!

٢٤٩- فأما الانفراد والعزلة، فعن الشر لا عن الخير، ولو كان فيها لك وقع خير، لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم.

٢٥٠- هيهات! لقد عرفت أن أقوامًا دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم، وقوي الخلط السوداوي٧ عليهم، فاستوحشوا من الناس! ومنهم من


١ الجشب: الطعام الخشن.
٢ نضوي: جسمي.
٣ طلحًا: مريضًا.
٤ البلغة: ما يسد الرمق.
٥ في الأصل: ترى.
٦ في حاشية الأصل: الحاقن: بالبول، والحاقب: بالغائط.
٧ السوداوي: المصاب باضطراب مصحوبة بالحزن العميق المزمن، والتشاؤم الدائم.

<<  <   >  >>