٥٩٢- قَالَ قَائِلٌ: فما جوابنا عن قولهم؟ قلت: اعلم -وفقك الله تعالى- أن الله عز وجل ورسوله قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل، ولم يكلفا معرفة التفاصيل: إما؛ لأن الاطلاع على التفاصيل يخبط العقائد، وإما؛ لأن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك.
٥٩٣- فأول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إثبات الخالق، ونزل عليه القرآن بالدليل على وجود الخالق، بالنظر في سنعه: فقال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا}[النمل: ٦١] ، وقال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الذاريات: ٢١] وما زال يستدل على وجوده بمخلوقاته، وعلى قدرته بمصنوعاته.
٥٩٤- ثم أثبت نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم بمعجزته، وكان من أعظمها القرآن الذي جاء به، فعجز الخلائق عن مثله، واكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة، ومضى على ذلك القرن الأول، والمشرب صاف لم يتكدر.
٥٩٥- وعلم الله عز وجل ما سيكون من البدع، فبالغ في إثبات الأدلة، وملأ بها القرآن.
٥٩٦- ولما كان القرآن هو منبع العلوم، وأكبر المعجزات للرسول صلى الله عليه وسلم، أكد الأمر فيه: فقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}[الأنعام: ٩٢] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ}[الإسراء: ٨٢] ، فأخبر أنه كلامه بقولة تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}[الفتح: ١٥] ، وأخبر أنه مسموع بقوله تعالى:{حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}[التوبة: ٦] ، وأخبر أنه محفوظ، فقال تعالى:{فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: ٢٢] ، وقال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}[العنكبوت: ٤٩] ، وأخبر أنه مكتوب ومتلو، فقال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}[العنكبوت: ٤٨] ، إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني، التي توجب إثبات القرآن.
٥٩٧- ثم نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون أتى به من قبل نفسه، فقال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}[السجدة: ٣] ، وتوعده لو فعل، فقال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}[الحاقة] ، وقال