قد بينا في كتاب الأمد الأقصى في الأسماء الحسنى، أن الله يحكم بقوله فيما فصل من البيان، ويحكم بفعله فيما خلق من الأدلة وقسم من الأرزاق وأولى من النعم وأنزل من النقم، ويحكم في الآخرة بظهور الحقائق وعلم اليقين وكشف الغطاء وإظهار الجزاء. وأوكدها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيه: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلفوا فيه من الحق، فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وشيء من هذا لا يقع فيه نسخ. ألا ترى أن الأمر بالقتال حكم من جملة الأحكام التي فصل؟ وهذا ظاهر والله أعلم.
[الآية الثانية: قوله تعالى: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} قال بعضهم: نسخا {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}]
قال القاضي محمد بن العربي رضي الله عنه:
خوف العذاب بالمعصية لا يتعلق به نسخ لأنه معنى الحكمة وفائدة التكليف وركن من أركان الشريعة التي لا تزعزع، كما أن الرجاء في الثواب بالطاعة مثله، فهذان أصلان في طرفي التقابل لا يتزعزعان ولا يرتفعان أبدًا. وقوله تعالى:{ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وإن كان وعدا حقا وقولا صدقا وشرفا تاما قطعا فإنه لا يرفع هذا الكلام ولا ينفي هذا الجزاء والشرط بل يحققه، فإنه ليس يقتضي وعد المغفرة لذنب الاسترسال على الذنب بل يقتضي المبالغة في احتنابه جزاء على ما شرف به وقد قال عليه السلام:(أفلا أكون عبدًا شكورا) إشارة إلى أن هذه المنزلة الشريفة في الغاية تقتضي في امتثال الطاعة واجتناب الذنوب النهاية وليس هذا بخاف إلا على أهل الغباوة.