الحديثة من أن كتب التراث ذات الموضوع الواحد تتشابه فيما بينها، وأن غاية اللاحق أن يدخل على ما تركه السابق، يدور حوله ويردد مباحثه وقضاياه، ثم أفضى ذلك الزعم إلى دعوة صاخبة تنادي بغربلة التراث وتصفيته، بالإبقاء على النافع المفيد، وترك ما عداه قابعاً في المتاحف، كمومياء الفراعنة، يذكر بتطور الخطوط وقواعد الرسم والكتابة وتاريخ صناعة الورق. وسوف نقول وقتها: إننا نحافظ على تراثنا من عوامل البلى والفناء، ونتعهده بالمبيدات والكيماويات الحافظة، فنؤكد بذلك انتماء كاذباً وولاء مدخولًا، ونكون كالذين يحتفظون في بيوتهم بصحيح البخاري التماساً للبركة وطرداً للعفاريت والأرواح الشريرة.
وفي هذا المجال أيضاً ينبغي أن نستبعد من منهجنا نظرية تقسيم عصور الفكر العربي إلى عصور علو وانحطاط، وألا ننظر إلى كتب المتأخرين وأصحاب المختصرات والذيول والحواشي على أنها من الفضول والحشو. فلو لم يكن في تصانيف السيوطي والبغدادي والخفاجي والمحبي والشوكاني إلا أنها حفظت لنا كثيرًا من علم الأوائل الذي اغتالته غوائل الناس والأيام، لكان ذلك من أكبر الدواعي إلى حفظها والعناية بها. على أن تراثنا لم يأخذ مكانه - عند التأمل والإنصاف - إلا بما صنفه الأوائل، مضافاً إليه تلك الشروح والمختصرات والذيول والصلات والحواشي والتقريرات. وهذا حديث طويل.
وليست المختصرات عند علمائنا كما هي في تصورنا هذه الأيام: إيجازاً وضغطاً للكتاب الكبير، بحذف الأسانيد والمكرر ... ونعم إنها قد تكون كذلك، لكن مع الرؤية الخاصة للمختصر، بإضافته أو نقده، وإليك مثالًا واحداً على ذلك: كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، اختصره ابن منظور صاحب «لسان العرب» فيما سمَّاه: «مختار الأغاني». وفي الجزء الثالث من هذا «المختار» نجد ترجمة موسعة جداً لأبي نواس، تضمنت أخباراً وأشعاراً لأبي نواس، لا تجدهما في الأصل «الأغاني». وكذلك صنع ابن منظور في ترجمة «جميل بن معمر» حيث أورد له بعض أشعار وأخبار لم ترد في «الأغاني».