ولا سبيل إلى ذكر كل أطراف القضية، فإنها من التشعب بمكان، فحسبي أن اذكر رؤوس كلام، وفيما ذكره الشيخان شلبي والقاضي، ثم ما يأتيك من كلام أهل العلم: مقنع وبلاغ، والمأمول منك أيها القارئ الكريم أن تجعل هذه القضية على بالك، وأن تشغل بها نفسك ووقتك، فإنها دين وعقيدة، فأقول وبالله الاستعانة:
أولاً: القرآن كلام الله القديم، نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام، على قلب النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمره ربه بتلاوته {واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك}[الكهف: ٢٧]، ثم أمره بإبلاغه للناس وقراءته عليهم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}[المائدة: ٦٧]، و {قراءناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث}[الإسراء: ١٠٦]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه جبريل بالوحي حريصاً على استظهار القرآن وحفظه، فكان يحرك لسانه حالة نزول الوحي، مخافة أن تفوته كلمة، أو يسقط عليه حرف، حتى طمأنه ربه بأن تكفل له أن يجمعه في صدره، ويسهل له قراءته لفظاً ومعنى، فقال تعالى:{لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه}[القيامة: ١٦ - ١٩]، وقوله تعالى:{فاتبع قراءنه} أي قراءته، وهو مصدر على وزن فعلان، مثل غفران وكفران.
وهذا هو أساس الحفظ في تراثنا العربي: إنه أمر أولاً بتلاوته وحفظه، ثم جاءت مرحلة الإِفهام بعد ذلك {ثم إن علينا بيانه}، وقال تعالى:{ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه}[طه: ١١٤]، وقال تعالى:{سنقرئك فلا تنسى}[الأعلى: ٦]، و "لا" هنا نفي وليست نهياً. والمعنى: فلست تنسى إذا أقرأناك.
ثانياً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي بالقرآن يُقرئه أصحابه فيحفظونه، وكان هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم حريصين على استظهار ما يحفظونه وتعهده بالمدارسة والعمل به، وكان الذي سمع يُعلم من لم يسمع، وكان عليه السلام يبعث إلى من كان بعيد الدار منهم مَنْ يُعلمهم ويقرئهم، كما بعث مصعب بن عمير