وهذه الممارسات مطروحة في كتب التاريخ: تراجم وأحداثاً، وفي كتب الأدب والأخبار، بل في سائر ما كتبه العرب في علومهم المختلفة، ومن المؤسف أن هذه الممارسات التي تمتلئ بها كتبنا ومعارفنا لا يقف الناس الآن عندها كثيراً بحسن التأمل والنظر، بل إنها عند بعض الناس ألوان من النوادر والمسامرات التي تستخرج الضحك ليس غير، بل إن بعضهم قد يسرف في "التفلسف" فيرى أنها ممارسات مصنوعة، في أخبار يراد بها إضحاك الخلفاء والملوك، للحظوة عندهم وأخذ عطاياهم، وان هذه الممارسات والأخبار إن صدقت فهي لا تخرج عن اهتمام العقل العربي بالجزئي دون الكلي، وهو كلام قد مللنا من الرد عليه، وهو في جملته لا يدل إلا على عدم المعرفة بكتبنا وتاريخنا.
ولو أردت أن أكتب لك أيها القارئ الكريم ما وقفت عليه من هذه الممارسات المطروحة في الأخبار، لاحتجت إلى مجلَّدات وأسفار، فحسبي أن أجتزئ هنا ببعضها، لكن لي عليك أيها القارئ العزيز شرط واحد: هو أن تعطي هذه الأخبار حظها من التأمل والتدبر، وأن تنتبه لذلك الخيط الذي يربط بينها، وسيُفضي بك هذا الخيط - إن شاء الله - إلى روح هذه الحضارة العربية القائمة على الصراحة والوضوح، وشرط آخر: ألا تظن أني أريد أن أسلِّيك أو أضحكك بهذه النوادر، وإن كنت أدعو لك أن يضحك الله سنك، ويبسط أساريرك.
وبعض هذه الأخبار مما وعته صدور الرواة من عربية الجاهلية، وكثير منه من عربية الإِسلام.
وإذا كانت مظاهر صدق النفس كثيرة، وصورها شتى، فإن أولاها بالعناية وأحقها بالتأمل: ما يتصل منها بالاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب، والإِنصاف في الحكم، ولو كان مما يجر إلى الانتقاص من النفس، وهو ما يسميه الناس الآن: الموضوعية ونقد الذات.