ومن أقدم ما عُرف من صور الإِنصاف في تاريخنا الأدبي، ما يسمى في تاريخ الشعر بالمنصفات، ويسميها الجاحظ "الأشعار المنصفة " البيان والتبيين ٤/ ٢٣. والأشعار المنصفة:"هي القصائد التي أنصف قائلوها أعداءهم فيها، وصدقوا عنهم وعن أنفسهم فيما اصطلَوْه من حَرِّ اللقاء، وفيما وصفوه من أحوالهم في إمحاض الإِخاء"، خزانة الأدب للبغدادي ٨/ ٣٢٧.
فالشاعر المنتصر لا يغره انتصاره فينسيه ما رآه من عدوه من بسالة في الطعن والضرب والرمي، فهو يزهو بانتصاره، لكنه يعترف لعدوه بالثبات والجلد، وهذا هو خلق الفرسان، وقد جمع الأستاذ عبد المعين الملوحي ست قصائد من هذه الأشعار المنصفة، ثم ضم إليها بعض المقطوعات الشعرية في الإِنصاف، وقدم لذلك كله بشيء من الدراسة التحليلية لهذا اللون من الشعر العربي، وقد صدر هذا العمل عن وزارة الثقافة والسياحة والإِرشاد القومي بدمشق ١٩٦٧ م.
أما الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب ففي تاريخنا منه الكثير مكتوباً في أخبار، وممارساً في وقائع، واكتفي هنا بخبرين من تاريخ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأول من رسالته الشهيرة في القضاء التي بعث بها إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو على قضاء البصرة، وفيها يقول:"لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل"، الكامل للمبرد ١/ ٢٠.
للمبرد فهذا خبر عن عمر، في الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب، ثم تأتي ممارسة عمر نفسه تصديقاً له في ذلك الخبر الذي يرويه المفسرون في سياق تفسير الآية ٢٠ من سورة النساء، وأصحاب السنن في أبواب النكاح. ففد روي أن عمر خطب يوماً فقال: "لا تغالوا صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، كان أولاكم وأحقكم بها محمد صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليُثقل صدُقة امرأته - أي مهرها -