وأمر آخر أشد وضوحاً هو أن كثيراً من تراثنا قد بقى موفوراً يملأ الخزائن العامة والخاصة إلى عهد قريب، وأن ما ضاع عنه بسبب غفلة الناس وتفريطهم أكثر مما ضاع بسبب عوادي الحروب والأيام، ولا زالت الأيام تظهرنا على مخطوطات نفسية كنا نعدها من المفقودات، وكم في زوايا خبايا!
ولكي يعلم القارئ قدر العطاء العلمي الذي خلفه لنا سلفنا- عليهم رحمة الله- فليراجع ما ألف من كتب للفهرسة- كـ (الفهرست) لابن النديم، أو (كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون) لمصطفى عبد الله؛ وهو من أنفع وأجمع ما كتب في موضوعه بالعربية، أو (خزائن الكتب العربية في الخافقين: للفيكونت فيليب دي طرازي؛ وقد أحصى في هذا الكتاب عدد المكتبات العربية في العالم فبلغت نحو ١٥٠٠ مكتبة يقدر ما في من كتب عربية بنحو ٢٦٢ مليون مجلد ما بين مخطوط ومطبوع.
[مراحل النشر]
لم يعد المسلمون أسلوباً في حفظ تراثهم ونشره؛ فقبل أن تظهر الطباعة كان الأسلوب المعتمد في نشر كتب التراث هو النسخ، حتى راجت صنعة الوراقة والنساخة، وكان لها أماكنها في الأمصار التي يؤمها العلماء.
ومع أن الطباعة ظهرت في القرن الخامس عشر على يد جوتنبرج الألماني، وتبع ذلك انتشار المطابع في أوروبا ومنها مطابع عربية، إلا أن المشرق الإسلامي لم يعرف الطباعة إلا في وقت متأخر عن ذلك؛ حيث بدأت في الآستانة في ١٥٥١ م، ثم في لبنان عام ١٦١٠ م، وانتقلت بعدها إلى عدة أقطار.
[المرحلة الأولى لنشر التراث]
ومما ينبغي ذكره أن الطباعة صبغت تنصيرية تبشيرية في تلك الفترة حتى أنشئت مطبعة بولاق التي عرفت (بالمطبعة الأميرية) في القاهرة بعد رحيل نابليون بفترة وذلك في عام ١٨١٩ م أو ١٨٢١ م، وطبع فيها مئات الكتب من مختلف الفنون من التفسير