للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التصاق الفن بالنفس]

وأنت حين تقرأ كتب الجاحظ هذه إنما تقرأ ثقافة القرون الثلاثة كلها - رواية وتدويناً - وهذا شأن الكاتب الكبير، يفتح منفذاً يُفضي إلى منافذ، ويشق باباً يدل على أبواب.

وأحسب أني لو تركت القلم يسترسل في وصف علم الجاحظ وأدبه لما انتهيت إلى غاية، فحسبي هنا أن أنقل كلام ذلك العالم الجليل المجهول القدر الدكتور طه الحاجري، رحمه الله، يقول في مقدمة تحقيقه لكتاب البخلاء: "كان الجاحظ إماماً من أئمة الكلام، وزعيماً من زعماء المعتزلة، وصاحب نحلة من نحلهم، وكان عالماً محيطاً بمعارف عصره، لا يكاد يفوته شيء منها، سواء في ذلك أصيلها ودخيلها، وسواء منها ما كان إلى العلم والتحقيق، وما كان إلى الأخبار والأساطير، وكان راوية من رواة اللغة وآدابها وأخبارها، غابرها ومعاصرها، واسع الرواية، دقيق المعرفة، قوي الملكة في نقد الآثار وتمييزها، ولكنه كان فوق هذا كله كاتباً أديباً بكل ما تتضمنه هذه الصفة من رهافة في الحس، وخصوبة في الخيال، وقوة في الملاحظة، ودقة في الإِدراك، وقدرة على التغلغل في دقائق الموجودات، واستشفاف الحركات النفسية المختلفة، وتمكن من العبارة الحية النابضة، والتصوير الكاشف البارع الذي يبرز الصورة بشتى ملامحها وظلالها، في بساطة ودقة وجمال".

وهذه النزعة الفنية التي غلبت على الجاحظ، ووسمت أعماله كلها، ترجع كما يقول الدكتور الحاجري إلى "طبيعة الفن الجميل، من شدة لصوقه بالنفس وتأثيره في الوجدان، وقدرته على مغالبة تقلبات الرأي ومذاهب الحياة، وترجع إلى قوة المزاج الفني وغلبة النزعة الفنية عند الجاحظ"، انتهى كلام الدكتور الحاجري.

وهذه النزعة الفنية هي التي خففت من جفاف تلك المباحث الكلامية التي شحن بها الجاحظ مؤلفاته، وكذلك ما حشده من المعارف والنظريات العلمية السائدة في عصره.

<<  <  ج: ص:  >  >>