في أوائل الستينات أخذتُ طريقي إلى دار الكتب المصرية، طالب علم يلتمس رزقه في نسخ المخطوطات العربية، وكانت الدار يومئذ تقف في ذلك المكان المعروف بميدان باب الخلق، مهيبة شامخة، فكان الداخل إليها لا يملك إلا أن يُنشد قول الشريف الرضي، وقد نظر إلى مدينة الحيرة وآثارها:
شهدت بفضل الرافعين قبابها ... ويبين بالبنيان فضل الباني
ثم يترحم على رافع الدار وبانيها «علي باشا مبارك».
وكنت بالغدو والآصال أمر على قسم المطبوعات بالدار، فأجد أشتاتاً من نفائس المطبوعات التي أخرجتها الدار وعرضتها بأبخس الأثمان. وكنت أرى الناس أفواجاً ومن كل بقعة يتزاحمون على شراء هذه المطبوعات لنفاستها ورخصها.
وفي تلكم الأيام أيضاً رأيت بقية من هذه الطائفة الجليلة من أشياخ العلم التي كانت تقوم على تصحيح الكتب بالدار، فيما كان يعرف بالقسم الأدبي، وكان هناك رجل من أفاضل الناس، هو الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، رحمه الله، الذي كان يتعهد هذه الذَُبالة المرتعشة، ويمدها بالزيت حتى لا تنطفئ.
ثمَّ تمادت بي الأيام، فنسختُ وقرأتُ وأبصرتُ وسمعتُ وسألتُ. وكان مما عنيت به التأريخ لنشر التراث العربي، في ديارنا وغير ديارنا - على ضعفي وقلة حيلتي - وقد رأيت هذا التاريخ يسير في مراحل مختلفة، ورأيت مطبوعات دار