في الاعتراف بأن للشعر لغة خاصة، وأن الضرورة الشعرية ليست كما يفهمها بعض الناس: أنها الذي لا يجد الشاعر عنها محيصاً. وهذا ما عليه المحققون من العلماء، فإن الشاعر الذي قال:
تمرون الديار ولم تعوجوا ... كلامكمُ عليَّ إذن حرامُ
كان يستطيع أن يقول:
مررتم بالديار ولم تعوجوا
فيسلم له الوزن مع رعاية النظام النحوي في تعدية الفعل «مر» بالباء، ولكنها لغة الشعر، فيا بُعد ما بين «تمرون» و «مررتم» في المذهب الشعري! ومع التسليم بهذه الضرائر الشعرية وتصنيف العلماء فيها: فإنك لو أحصيت ما خرج به الشعراء جميعاً في كل عصور الاستشهاد والاحتجاج، وما بعدها، عن النظام النحوي، لوجدته قطرة في بحر، وأن جمهور شعرهم جار على هذا النظام، وما كان ذلك كذلك إلا لأن ذلك النظام النحوي فطرة وسليقة عند العرب، ألم يقل الشاعر القديم:
ولست بنحوي يلوك لسانَه ... ولكن سيلقيّ أقول فأعربُ
[الضيق بالنحو]
أما ما تراه في كتب الأدب والتراجم من ضيق بعض الشعراء بالنحو والنحاة، وقولهم في ذلك الشعر الساخر المستهزئ فهو عندي من باب المعابثة والاستطالة بالذكاء، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن نحوكم أيها النحاة صنعة، ونحوَنا فِطْرة، وآية ذلك أن شعرهم الذي حمل سخريتهم من النحاة ليس فيه شيء خارج النظام، أو خارق لقواعده، وكأنها سخرية بالنحاة لا بالنحو. ولا يتسع المقام لذكر شيء من شعرهم الساخر هذا وتحليله، ولكني أشير إلى مقطوعة من تسعة أبيات، أوردها أبو حيان في الإمتاع والمؤانسة ٢/ ١٤٠، يقول الشاعر الساخر في أولها:
ماذا لقيتُ من المستعربين ومن ... تأسيس نحوهمُ هذا الذي ابتدعوا