للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف غريب!]

فما أظن هؤلاء المثقفين الذين كرهوا الشيخ وأعرضوا عنه وسخروا منه وقالوا فيه أسوأ الذي قالوا، ما أظنهم فعلوا ذلك إلا أنفة واستعلاء وذهاباً بأنفسهم أن يجتمعوا على مائدة واحدة مع العامة الذين يصيحون ويفغرون أفواههم إعجاباً بالشيخ، فهذه (ديماغوجية) بغيضة عند المثقفين الأكابر والأدباء، أصحاب الجباه العالية، وهذا يذكرنا بموقف أولئك الذين كانوا يعرضون عن حزب الوفد ويسخرون منه، لأنه يجمع الغوغاء والدهماء من عامة الشعب، ويرون أن حزباً مثل حزب الأحرار الدستوريين جدير بالاحترام والتبجيل، لاجتماع الصفوة في رحابه في مقدمتهم الدكتور محمد حسين هيكل باشا.

ولم يكن المثقفون وحدهم في هذا الموقف من الشيخ، بل شاركهم كثير من الجامعيين، والعتب على هؤلاء أشد، والمحنة في موقفهم هذا أعظم، لأنهم كانوا أولى الناس بأن ينتبهوا إلى الشيخ، ويتأملوا منهجه في البيان واللغة، وهذا السيل المنهمر من الشعر الذي قلما يجتمع في صدر أحد من أهل زماننا.

لقد سلك الشيخ مسالك عجيبة في بيان إعجاز القرآن والكشف عن مراد الله في هذا الكتاب الحكيم، بتأمل اللغة، والنفاذ إلى أعماقها، وإبراز خصائصها الصوتية والتركيبية، وكنتم انتم أيها الجامعيون أولى الناس بمتابعة الشيخ في ذلك، ودرسه وتكميله، وإضاءته بمناهج الدرس الحديث، ولكنكم فتنتم أنفسكم وارتبتم وغرتكم مناصبكم الجامعية، فتكبرتم وأعرضتم عن الشيخ جملة، وقد ظلمتم أنفسكم باتخاذكم الكبر، فتوبوا إلى بارئكم، وأعكفوا على تراث الشيخ المسموع والمرئي، فأعملوا فيه عقولكم، وأعطوه حظه من النظر والتأمل، فإن الشيخ قد أوتي علماً عظيماً، ينبغي علينا نحن ورثة الأنبياء كشفه وإظهاره، وسنحرز معه الأجر ونشركه في المثوبة إن شاء الله. فنحن وإياه على ثغر من ثغور العربية، نحميها ونذود عنها، ونجالد الناس عليها، وتلك مرتبة عليا، فقد قال عبد الله بن المبارك (١٨١ هـ): "لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم"، سير أعلام النبلاء ٨/ ٣٤٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>