وإذ قد فرغت من التفرقة بين نحو الصنعة الذي هو النظام، ونحو التراكيب الذي هو التراكيب والعلاقات بين أجزاء الكلام، أعود إلى ما كتبه الأستاذ الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وأول ما يلقانا من كلامه - حفظه الله - قوله:"وبعض الناس يظنون أن اللغة معناها النحو، ولهذا قد يستغربون هذه الضجة التي نثيرها؟ لأن القيامة في رأيهم لن تقوم إذا اخطأ أحدنا أو أخطأنا جميعاً، فجعلنا الفاعل منصوباً أو حتى مجروراً، بدلاً من أن نجعله مرفوعاً، كما يطالبنا النحاة".
وأقول: إما أن اللغة ليست هي النحو، فهذا صحيح، وقد قاله أهل العلم من قديم، ومن أقرب ما قاله القدماء قول أمير المؤمنين يحيى بن حمزة العلوي اليمني (٧٤٥ هـ)، قال في كتابه الطراز ٣/ ٤٤٢:"إن المقاييس النحوية تابعة للأمور اللغوية، فيجب تنزيلها على ما كان واقعاً في اللغة، فإذا ما ورد ما يخالف الأقيسة النحوية من جهة الفصحاء، وجب تأويله، ويُطلب له وجه في مقاييس النحو، ولا يجوز رده لأجل مخالفته للنحو".
ومع استقلال اللغة عن النحو وتبعيته لها، فإن له سلطاناً بضوابطه الإِعرابية على دلالات اللغة، وقد مر بك كلام ذلك الأديب، الذي حكاه أبو حيان.
أما قول الأستاذ حجازي عن بعضهم:"إن القيامة لن تقوم إذا جعلنا الفاعل منصوباً أو حتى مجروراً، بدلاً من أن نجعله مرفوعاً كما يطالبنا النحاة"، فالأمر في العلامة الإِعرابية ليس بهذه السهولة وذلك اليسر، والذين يقولون هذا إنما يستشهدون بجملة مثل "جاء محمد" ويقولون: إن الفاعل معروف، سواء سكَّنَا الدال او رفعناها أو نصبناها أو جررناها، وهو كلام ركيك، لأن جملة كهذه لا تكاد توجد، لا في الفصحى ولا في العامية، فالذي يستعملها فصيحة لا بد أن يضم الدال، ولا يُسَكَنها إلا إذا وقف على الدال، أما في العامية - وبخاصة العامية المصرية - فلا يكاد الناس يستعملون في هذا الموضع إلا الجملة الاسمية "محمد جه" وعلى لهجة أهل دمياط وما حولها "إجَهْ " وفيها قلب مكاني، مثل جذب وجبذ، وأرانب وأنارب ومسرح ومرسح.