للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقواعد والتعريفات والقوالب، وما صحب ذلك كله من العلة والعامل، ولبعض خلق الله الحق في أن يضيقوا بالنحو على هذا الوصف؟ لأن فيه أحياناً ما يكد الذهن ويصدع الرأس، مع ما في بعض النحويين قديماً وحديثاً من ثقل وغثاثة، ولكنه على كل حال علم ينبغي أن يعرف ويحاط به.

والنحو الثاني: نحو التراكيب، وهو الذي اتكأ على النظام وانطلق منه إلى إدراك العلائق بين أجزاء الكلام، وتلك المنادح الواسعة التي ذكرتها من قبل، وهذا تستطيع أن تدركه من أول كتاب سيبويه إلى النحو الوافي لعباس حسن، على تفاوت بين النحاة في ذلك، وتستطيع أن تدركه أيضاً في كتب أعاريب القرآن وتوجيه القراءات السبع والعشر والشواذ، وشروح الحديث النبوي وفي شروح الشعر وكتب الأمثال وعلوم البلاغة. والنحو بهذا الوصف لا يصح أن يُطعن فيه أو يُنتقص منه، لأن الطاعن فيه منتقص للعربية كلها، ذاهب عنها جميعها.

ومن أعجب العجب أننا لا ننتبه لمناطق العظمة في تراثنا إلا إذا نبَّهنا إليها غيرنا من الطارئين على ثقافتنا وفكرنا، وهم طائفة من المستشرقين الجادين الذين عملوا بإخلاص وتفان في الكشف عن كنوزها وإبرازها، فحين التفتوا إلى ابن جني وعبقريته الفذة التفتنا نحن أيضا إليه، ويوم أن خرج اللغوي الأمريكي المعاصر "تشومسكي" بنظريته في النحو التحويلي التوليدي، وما قاله عن "البنية العميقة" و "البنية السطحية" فرح كثير من المشتغلين بالدراسات النحوية عندنا، وقالوا: إن ذلك يتشابه مع كثير مما قدمه النحويون العرب القدماء في معالجتهم لتفسير الجمل في العربية، وجهد بعضهم في المقارنة بين جهود عبد القاهر الجرجاني وجهود تشومسكي في هذا السبيل، ويرد الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف ذلك فيقول: "ومهما تكن أسباب هذا التشابه أو التقارب في أسس المعالجة فإنه ينبغي ألا نعد ذلك من جانبنا شهادة للنحو العربي، بل قد أبالغ فأقول وبغير تواضع كاذب أو إدعاء خادع إن العكس هو الصحيح، أي أن هذا التقارب أو التشابه قد يعد شهادة لنظرية تشومسكي"، (من الأنماط التحويلية في النحو العربي ص ٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>