لكن الملاحظ والمشاهد الآن أن الأدباء يتكلمون أكثر مما يقرأون، وأن ما تقرأه من مصطلحات في القصة والرواية والشعر والنقد، إنما هي مسموعات، تتردد في الندوات، يتلقفها بعض من بعض، ولا خير في ذلك كله، فقد قال ابن قيم الجوزية:«من لم تنفعه عينه لم تنفعه أذنه».
ثالثاً: تسويغ العجز باصطناع نظريات تمهد له وتسانده: وفي ذلك الطريق جاءت مغالطات شتى، وجاء خداع كثير، فقيل مثلًا: إن العناية بتحسين العبارة أصباغ وزخارف، وأنها تكون على حساب المعاني والأفكار، وأن التفكير والموضوعية يأبيان الزخارف والأصباغ، وأن غايتهما الحقائق ليس غير، وقد تبع ذلك التفرقة بين الأسلوب الأدبي والأسلوب العلمي، تفرقة تفضي في نهاية الأمر إلى التهوين من الأسلوب الأدبي، ووصف من يحسن البيان بأن كلامه «كلام إنشاء»، وقولهم في سياق المدح: إن فلاناً يكتب كما يتكلم.
وقيل أيضاً: لا ينبغي التعامل بالكلام المأثور، حتى لا يجد القارئ نفسه يتعامل في المنزل والشارع بلغة، وفي الكتاب بلغة الشعر الجاهلي، وأننا يجب أن نصطنع لغة تقرب الفجوة بين الشارع والكتاب، وهذا كلام غير صحيح - فضلاً عما فيه من لعب وخداع - لأن هذه الفجوة لا بد أن تكون قائمة وثابتة، ففي كل لغات الدنيا فرق بين لغة العامة ولغة الخاصة (وانظر مقالتي عن الشيخ الشعراوي واللغة - ص ٢٨٠، وتقديمي لكتاب الأستاذ محمود رؤوف أبو سعده: من إعجاز القرآن - ص ٢٧٠).
وقيل أيضاً: إن أحسن الأساليب هو ما لا يحتاج معه القارئ إلى مراجعه معجم، وهذا مما يفتتن به الشباب المبتدئون، والكلام مقلوب، والقضية معكوسة، فإننا إذا لم نراجع لبعض ما نكتب شيئاً من المعاجم فإننا نكون قد وقعنا في حمأة العامية والكلام السوقي، واستوى في ذلك عالمنا وجاهلنا. ولماذا كانت المعاجم، ولأي غاية وضعت؟