البيان، كنت تقرأ لهم في الصحيفة اليومية والمجلة الأسبوعية، ثم كنت تراهم في فصول المدارس الابتدائية والثانوية، يروضون صغار التلاميذ على البيان، ويجمعون لهم «عناصر موضوع الإنشاء» الذي صار الآن «التعبير» ولا تعبير هناك ولا عبارة، ثم كانوا يخوضون بهم لجج بحار الشعر والنثر فيما كان يعرف بالمحفوظات والمطالعة.
[حسن البيان]
وقد ذهبت تلك الأيام بحلاوتها ونضارتها وصرنا إلى هذا الزمان الذي زهد الناس فيه في حسن البيان، وهجروا طريقه هجراً يوشك أن يكون تاماً، وأصبحت أساليب كثير من الكتاب، ومن ينتسبون إلى الأدب الآن تدور في فلك ألفاظ مستهلكة تشبه العملة المعدنية الممسوحة، أو العملة الورقية التي تهرأت أطرافها من كثرة ما تداولتها الأيدي، أو كالعملة الزائفة التي ليس لها رصيد في مصرف النفس، وإنما هي ألفاظ وتراكيب تسود بها الصحف، تروح وتجيء، تتجاوزها عينك على عجل، لا تقف عندها، لأنك لا تجد فيها إمتاعاً، ولا تحس معها أنساً، فلاً عما تجده في بعضها من ثقل وغثاثة، تكاد تطبق على القلب وتسد مجرى النفس - وما أمر «الزخم» منك ببعيد - إلى هذه البلية المستحدثة، وهي بلية الغموض الذي يندفع فيه كثير من الأدباء الآن، وليس هو الغموض الذي يحرك النفس لتستخرج بحسن التأمل خبيء الكلام وموطي المشاعر، ولكنه الغموض المظلم الذي يكد العقل، ويكون مجلية للغم والكآبة، غموض العجز والحيرة.
وهذه الألفاظ والتراكيب التي يستعملها بعض أدباء هذا الزمان، أشبه بتقاليع (الموضة) تظهر ثم تختفي، لا تعرف ثباتاً ولا استقراراً، فقد كان نسمع في الستينات - كما ذكرت ي مقال سابق بالهلال - الواحدة الموضوعية، والمعاناة، وعمق التجربة والخلق وتراسل الحواس، والمونولوج الداخلي، والدفقة الشعورية، والتعبير بالصورة، والألفاظ الموحية، والشعر المهموس. والآن نسمع: الإبداع وتكثيف التجربة، والزخم (والعياذ بالله) والطرح، والمنظومة والإشكالية والتناص والتماهي والتفجير والتفكيك .. وهذا وأشباهه إنما هو كما قال ابن قتيبة منذ