والصدق فضيلة الفضائل، وعنوان الشرف والكمال، به يسمو الإِنسان أمام نفسه، وعليه يعظم في أعين الناس وإليه يعود صلاح المجتمع، وجاء في الأثر:"الصادق يعطى ثلاث خصال: المُلْحة والمحبة والمهابة"، والمُلْحة بضم الميم وسكون اللام: البركة، يقال: كان ربيعنا مملوحاً فيه: أي مخصباً مباركاً، النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ٤/ ٣٥٤، روي شبيهه عن الزاهد الكبير يوسف بن أسباط قال:"للصادق ثلاث خصال: الحلاوة والملاحة والمهابة"، سير أعلام النبلاء، للذهبي ٩/ ١٧٠.
وبعض الذين يكتبون سيرهم الذاتية يستطردون مع شهوة الحديث عن النفس إلى ذكر محاسن ومآثر لهم، في مواقف ووقائع، يضخِّمونها وينفخون فيها، غير مدركين أن هناك من الناس من شهد هذه المواقف، وعاش تلك الوقائع، وغير متنبِّهين إلى أنهم ربما نقضوا كلامهم ذلك في مكان آخر مما كتبوه في سيرهم الذاتية أو في غيرها، فكان واجباً عليهم أن يتذكروا هذا المثل الحكيم من أمثال العرب:"إن كنت كذوباً فكن ذَكوراً"، ويروى:"كن ذكوراً إذا كنت كذوباً" مجمع الأمثال للميداني ١/ ٧٤، ٢/ ١٧٣، وقد نظمه شاعر فقال:
تكذب الكذبة جهلاً ... ثم تنساها قريبا
كن ذكوراً للذي ... تَحْكي إذا كنت كذوبا
جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري ٢/ ٣٩٦.
وأعلى مراتب الصدق: الصدق مع النفس، ومظاهر الصدق مع النفس كثيرة، وجماعها ألَّا يخالف الطاهر الباطن، وألا يصادم السر العلن.
ويقرأ الناس في تراثنا، على اختلاف علومه وفنونه، كلاماً كثيراً، منظوماً ومنثوراً، عن الصدق وفضائله، في نصوص عالية موثقة، لكنها تظل نصوصاً مجردة، يصدقها من يصدقها، ويكذبها من يكذبها، وتبقى ممارسات الناس وحدها شاهداً ودليلاً على التزامهم أبواب الصدق، وتحريهم وجوهه ودروبه.