ويريد ابن جني أن يقول: إن من اهتدى إلى وجه من النقد صحيح، أشبه الخليل بن أحمد، وأبا عمرو بن العلاء، ولا ينبغي لأحد أن يخالف السابقين في آرائهم لشهوة الخلاف فقط، وأنه ليس من حقه أن يخالفهم إلا إذا وصل إلى مرتبتهم أو فاقها: علماً وبحثاً ونظراً، على ألا يسرع إلى الرأي بمجرد الخاطرة السانحة، والنزوة الفكرية الطارئة.
فهذا هو كلام أهل العلم، أما التخييل بالمنهج والتفكير العملي، للهجوم على تخطئة الأقدمين بالحق وبالباطل، فليس من العلم في شيء، ولا من العقل في شيء، وليس من الأدب أيضاً مع تاريخ الأمة أن يقول كاتب كبير معاصر، عن الإمام المفسر المحدث المؤرخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري:«المؤرخ الأبله».
ولو سألت هذا الكاتب الكبير عن ترجمة الطبري: حياة وعلماً وتصنيفاً، ووفاة، لمن ظفرت بشيء، بل لو سألته عن عدد طبعات كتابه «تاريخ الأمم والملوك»، والفرق بين هذه الطبعات لما أجابك بشيء. ويقرأ الناس هذا ويسكتون؛ لهوان الماضي عليهم، وخفة الموروث في موازينهم، وقل: سبحان ربي!
لو تعرض أحد لبعض كتابنا ومفكرينا المعاصرين، لاهتزت الأرض بمن عليها، ولسمعت دوياً هائلاً وجلبة صاخبة حول رموزنا العظيمة التي لا ينبغي أن تنال، وأعلام التنوير التي لا يصح أن تطال، أما الهجوم على الأوائل، والسخرية منهم، والتطاول عليهم، فلا نكرة فيه ولا غضب منه؛ لأن «حمزة لا بواكي له»:
أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم