على أنه ينبغي التنبه الدائم للفرْق الدقيق بين صراحة هؤلاء الناس، وصدقهم في الإِبانة عن أنفسهم، وبين كشف العيوب القادحة، ونشر المساوئ الفاضحة، التي تدخل في باب العورات، وهو ما نهينا عن الحديث عنه، أو تتبعه واستقصائه، كما ذكرت في صدر هذه الكلمة، وضم إليه ذلك الحديث العظيم الذي أخرجه الإِمام مالك، وهو حديث من اعترف على نفسه بالزنا، وفي آخره يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد" الموطأ (باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا، من كتاب الحدود) ص ٨٢٥.
ومن أحلى وأعذب صور الصدق مع النفس وإرسالها على سجيتها: قصة ذلك المحدث الجليل إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو إسحاق القرشي الزهري العوفي المدني، المتوفى (١٨٣ هـ) كان حافظاً كبيراً، وإماماً ثقة حجة، يقول الحافظ الذهبي في ترجمته من سير أعلام النبلاء ٨/ ٢٧٢:"وكان ممن يترخص في الغناء على عادة أهل المدينة، وكأنه ليم في ذلك، فانزعج على المحدثين، وحلف أنه لا يحدث حتى يغني قبله"، أي قبل التحديث.
وروى الخطيب البغدادي هذا الخبر، برواية أخرى، قال:"وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله، وأتاه بعض أصحاب الحديث ليسمع منه أحاديث الزهري، فسمعه يتغنى، فقال: لقد كنت حريصاً على أن اسمع منك، فأما الآن فلا سمعت منك حديثاً أبداً، فقال: إذاً لا أفقد إلا شخصك، عليّ وعليّ - يقصد الحلف بالطلاق - إن حدثت ببغداد ما أقمت حديثاً حتى أغني قبله ... وذكر أن هذه القصة بلغت الرشيد، فاستدعاه، ودعا له بعود فغناه:
يا أم طلحة إن البين قد أفدا ... قل الثواء لعن كان الرحيل غدا
تاريخ بغداد ٦/ ٨٤، وهذا البيت لعمر بن أبي ربيعة، وروايته في ديوانه ص ٣٩١: "ألمم بزينب إن البين قد أفدا". ومعنى "أفد" دنا وقرب موعده.