خالط أبو فهر العربية منذ أيامه الأولى، وعرف مناهج الكتب والكتاب في مختلف فنون العربية، وخبر مصطلحات الأقدمين وأعرافهم اللغوية، وهذا فرق ما بينه وبين سواه من الكتاب والنقاد.
فأنت قد تجد ناقداً ذا ذوق وبصيرة، ولكن محصوله اللغوي على قدر الحاجة، وقد تصادفه جمع بين الذوق والبصيرة واللغة ولكن معارفه التاريخية لا تتجاوز الشائع العام الدائر على الألسنة، وقد تراه فاز من الثلاثة بأوفر الحظ والنصيب، ولكنك لن تجد عنده ما تجد عند أبي فهر من الأنس بالمكتبة العربية كلها في فنونها جميعاً، ودوران هذه الفنون في فكره وقلبه دوران الدم في العروق.
ولقد سارت حياة أبي فهر في طريقين استويا عنده استواء واضحاً عدلاً:
الطريق الأول طريق العلم والمعرفة، يعب منهما ولا يروى.
والطريق الثاني: التنبه الشديد لما يحاك لأمتنا العربية من كيد ومكر، وما يراد لثقافتها وعلومها من غياب واضمحلال، وظل حياته كلها قائماً على حراسة العربية والذود عنها، يحب من أجلها ويخاصم من أجلها.
وقد احتمل في حالتيه من العناء والمكابدة ما تنوء بحمله العصبة أولو القوة.
وقد حارب أبو فهر في جهات كثيرة، وخاض معارك كثيرة، حارب الدعوة إلى العامية، وحارب الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بحروف اللاتينية، وحارب الدعوة إلى هلهلة اللغة العربية والعبث بها بحجة التطور اللغوي، وحارب الخرافات والبدع والشعوذة، وقد حارب في كل ذلك وحده غير متحيز إلى فئة، أو منتصر بجماعة، وهو صلب عنيد فاتك، القى الدنيا خلف ظهره ودبر أذنيه، فلم يعبأ بإقبالها أو إدبارها، واستوى عنده سوادها وبياضها.
ولقد أقصي كثيراً عن محافل الأدب ومجالي الشهرة فلم يزده ذلك إلا إصراراً وثباتاً، ووقف وحده في ساحة الصدق شامخ الرأس مرفوع الهامة يرقب الزيف ويرصده ويدل عليه، ولم يجد خصومه في آخر الشوط إلا أن ينفروا الشباب عنه،