سرعان ما يثوب إلى نفسه السخية المعطاء فيلبي ويجيب. وافتح أي كتاب شئت من نصوص التراث المنشور لترى آثار علمه وفضله، يذكرها الناشرون تكريماً للرجل وتزكية لعملهم.
لكن الله بارك له في وقته وسُنَّي له أن يُخرج بعض النصوص حاملة اسمه، وقد أبان فيها عن علم كثير. ففضلًا عن الفهارس العلمية التي صنعها لدار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، حقق رحمه الله هذه النصوص، وهي بحسب ترتيبها الزمني:
١ - طبقات الأطباء والحكماء، لأبي سليمان بن حسان الأندلسي المعروف بابن جُلجُل (بجيمين مضمومتين) من علماء القرن الرابع الهجري. وقد كان الفقيد رحمه الله يعتز كثيراً بهذا الكتاب وبعمله فيه. وقد قام له بمقدمة علمية قيمة، قال فيها:«هذا كتاب يعتبر وثيقة هامة في تاريخ العلوم وتطور حركة التأليف والترجمة في القرن الرابع الهجري الذي يعد بحق العصر الذي ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية ونمت وبلغت غايتها من الإنتاج الواسع في شتى ميادين العلوم والآداب.
ولعل ميزة هذا الكتاب الأولى التي جعلت له قيمة علمية خاصة ونصاً قديماً له خطره في تاريخ العلم أن مؤلفه يعتمد فيما رجع إليه من مصادر على تراجم عربية لأصول لاتينية تاريخية. فقد عهدنا دائماً أن أكثر الكتب التي نقلها العرب أو غيرهم من المترجمين كانت عن أصول يونانية، والقليل منها عن اللغات الفارسية والسريانية والهندية، وأنهم أكثروا من النقل والترجمة عن هذا الطريق، ولكنا لم نظفر - إلا قيلًا جداً - بنصوص عربية ترجمت عن اللغات اللاتينية. وربما كان كتابنا هذا أول كتاب استفاد من هذه الترجمات التي نرجح أنها تمَّت في عصره أو قبله بقليل».
ثم يمضي الأستاذ في مقدمته متحدثاً عن مصادر الكتاب، وعن هذا اللون من التصنيف، متتبعاً المسار الزمني له. وقد وقف رحمه الله عند بعض النصوص التي أوردها ابن جُلجُل، والتي تذكر صراحة قدم حركة النقل والترجمة في صدر الدولة الأموية. وكان الشائع أنها تمت في العصر العباسي وفي عصر المأمون بالذات.