الرضي والعلم النافع، وما كان رحمه الله يذكر هذه الشخصية إلا وتطفر من عينيه الدمعة، تلك هي شخصية الشيخ محمد زاهد الكوثري علامة وقته ونادرة زمانه، ولد رحمه الله بشرقي الآستانة ونزل القاهرة فراراً من اضطهاد الكماليين، حيث توفي بها سنة ١٣٧١ هـ / ١٩٥٢ م، وقد أجاز الشيخ الكوثري فقيدنا في ليلة الجمعة ٢٠ من رمضان سنة ١٣٧١ هـ في السنة التي توفي فيها، وكانت آخر إجازة يمنحها الشيخ لتلاميذه. ونص الإجازة:«وممن استجازني الأستاذ الفاضل البحاثة الواسع الاطلاع السيَّد فؤاد السيَّد عمارة، كان الله له حيثما يكون، ورعاه في كل حركة وسكون. وبعد أن اطلع على كثير من مؤلفاتي وسمع مني حديث الرحمة المسلسل بالأولية، أجزته أن يروي عني جميع ما تصح لي وعني روايته من حديث وتفسير وفقه وأصول وتوحيد ومصطلح وتاريخ وحكمة وعربية».
وفي آخر المطاف تركز علم الفقيد في نقطتين اثنتين لا يشركه فيهما سواه: فكر المعتزلة، والإحاطة بجغرافية اليمن وعلمائها. هاتان النقطتان فرَّع لهما نفسه وصرف إليهما جهده، حتى ملك القول فيهما غير مدافع ولا مزاحم. وقد قدر لي - وأنا آخذ عنه وأتلقى منه - أن أشهده وهو يخطط لتحقيق «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة»، و «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» فرأيت عجباً، يرحمه الله.
أما الحديث عن ظرفه وخفة ظله فيرجع إلى أنه تعرف في شبابه على أعلام الظرف والفكاهة في ذلك العصر، من مدرسة الشاعر الزجال حسين شفيق المصري، وكان رحمه الله أمة في الرواية والحفظ - ومعارضاته للمعلقات السبع معروفة - وكانت لفقيدنا خصوصية بهذا الشاعر الكبير، أفاضت عليه الكثير من خفة الروح وعذوبة الحديث. ووعت حافظته كثيراً من شعر حسين شفيق، لم يدون.
وقد حدثني رحمه الله عن جماعة من ظرفاء الأدباء كانت تلتقي بدار الكتب في ذلك الوقت في حلقة يسمونها «البعكوكة» على يسارك وأنت تدخل الدار الآن.
وحول هذه الحلقة رويت أشعار ورنت ضحكات. وقد لا يعلم الكثيرون أن للأستاذ فؤاد أزجالًا طيبة. ولولا اشتغاله بالتراث لكان له في عالم الزجل شأن كبير.