فراته أنت؟ فقال: نعم، قلت: وما رأيك فيه؟ فأجاب بكلام عال جدًا، أمسك عن ذكره هنا حتى لا أزيد النار اشتعالًا، ثم سألته: هل قرأت كتاب ابن بلدك الأستاذ "محمود رؤوف أبو سعدة " عن إعجاز العلم الأعجمي في القرآن، الذي نشرته دار الهلال؟ قال: نعم، ولكن لي عليه ملاحظات. وذكر منها أشياء جيدة، فأغراني ذلك كله بمد حبال المحاورة معه، حتى جاء ذكر "الجاحظ"، فقال: الجاحظ عظيم، لكنه غطى بشهرته على أدباء كبار، قلت: مثل من؟ قال: أبو حيان التوحيدي، قلت: هل تقرأ لأبي فهر محمود محمد شاكر؟ قال: نعم، وأعظم أعماله "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، أما "أباطيل وأسمار"، فهو جيد، لكن فيه تكرار كثير.
وامتد الكلام إلى أدباء الحداثة، فقال: إنهم لا ينتجون أدبًا جيدا لَأنهم لا يقرأون، قلت: لعل عذرهم ضيق الوقت وكثرة الصوارف، قال: لا، لو رأيتهم في قصور الثقافة، وهم ينفقون وقتًا طويلا في الثرثرة وفيما لا طائل تحته، لأخذك العجب، ثم ناقشنا قضايا كثيرة كشفت عن اطلاعه الواسع. قلت: ما اسمك؟ قال:"صلاح المصري"، وأعمل بالجزارة التي ورثتها عن أبي. وقبل أن أودعه قال: على فكرة أنا خريج دار العلوم سنة ١٩٧٠، دفعة الدكتور الشاعر "عبد اللطيف عبد الحليم".
قلت: ومع هذا تبقى صورتك العظيمة عندي: انك جزار مثقف، أما تخرجك في دار العلوم فلن يغني عنك شيئًا، لقد عرفت من أبناء دار العلوم المحقق والعالم والأديب والشاعر، لكني عرفت منهم أيضًا من يكتب صورة "البقرة"، وصورة "آل عمران" بالصاد لا بالسين، فهذا كما قال ربنا عر وجل:(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ)[الرعد: ٤].
وبعد: فهل بقي من الجزارين المثقفين أحد؟ الله أعلم. ولعلنا نظفر بالمزيد منهم حتى يصبح لدينا "سلخانة " من المفكرين، و "مذبح" من النقاد.