للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= قلت: وهو أصحُّ من مرسل ابن إسحاق، لأنَّ رجاله كلَّهم ثقات، وهو بظاهره يُبطل قصة المرأة، لأنه يدل على أنَّ تراجع عمرَ -رضي الله عنه- عمَّا هَمَّ به من النهي إنما كان بقراءته الآية قبيل خروجه إلى الناس، بينما القصة تقول: إنَّ تراجعَه إنما كان بعد خروجه وتذكير المرأة إيَّاه بالآية!
وعلى كلِّ حال؛ فهذان مرسَلان لا يصحَّان لإرسالهما، وللتعارض الذي بينهما، ومخالفتهما لسائر طرق الحديث عن عمرَ التي أَطَبقت على أنَّ عمرَ نهى عن التَّغالي في المهور، ولم تذكر أنه رجع عن ذلك.
وليس في نهي عمرَ عن ذلك ما ينافي السُّنَّة حتى يتراجعَ عنه، بل فيها ما يشهد، فقد صحَّ عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنِّي تزوجتُ امرأةً من الأنصار، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هل نَظَرتَ إليها، فإن في عيون الأنصار شيئًا؟»، قال: قد نَظَرتُ إليها، قال: «على كم تزوجتَها؟»، قال: أربع أواق. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أربع أواق؟! كأنَّما تنحتون الفضَّة من عُرض هذا الجبل». رواه مسلم.
وإذا تبيَّن أنَّ نهي عمرَ -رضي الله عنه- عن التَّغالي في المهور موافق للسُّنَّة، وحينئذ يمكن أن نقول: إنَّ في القصَّة نكارة أخرى تدلُّ على بطلانها، وذلك أنَّ نهيه ليس فيه ما يخالف الآية حتى يتسنى للمرأة أن تعترض عليه، ويسلِّم هو لها ذلك؛ لأن له -رضي الله عنه- أن يجيبها على اعتراضها -لو صحَّ- بمثل قوله: لا منافاة بين نهيي وبين الآية من وجهين:
الأوَّل: أنَّ نهيي موافق للسُّنَّة، وليس من باب التحريم، بل التنزيه.
الآخر: أنَّ الآية وَرَدت في المرأة التي يريد الزَّوج أن يطلِّقها، وكان قدَّم لها مهرًا، فلا يجوز له أن يأخذ منه شيئًا دون رضاها مهما كان كثيرًا، فقد قال تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا}، فالآية وَرَدت في وجوب المحافظة على صداق المرأة وعدم الاعتداء عليه، والحديث وما في معناه ونهي عمرَ جاء لتلطيف المهر وعدم التَّغالي فيه، وذلك لا ينافي بوجه من الوجوه عدم الاعتداء على المهر بحكم أنه صار حقًّا لها بمحض اختيار الرَّجل، فإذا خالف هو، ووافق على المهر الغالي، فهو المسؤول عن ذلك دون غيره.
وبعدُ، فهذا وجه انشرح له صدري لبيان نكارة القصَّة من حيثُ متنها، فإنْ وافق ذلك الحقَّ؛ فالفضل لله، والحمد له على توفيقه، وإنْ كان خطأً؛ ففيما قدَّمنا من الأدلة على بيان ضعفها من جهة إسنادها كفاية، والله سبحانه وتعالى الهادي. انتهى كلامه رحمه الله.
وانظر: «علل الدارقطني» (٢/ ٢٣٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>