للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قال قائل: فما حكم " مذ " في هذا الوجه وتقديرها؟

قيل له: حكمها أن تكون اسما، وتقديرها أن تكون مبتدأة، ويكون ما بعدها خبرها، كأنك قلت: " ما رأيته مدة ذلك يوم السبت: فيكون على كلامين ".

فإن قيل: فهلا خفضت بمذ، وجعلتها مثل: " من " كما فعلت ذلك بمنذ؟ قيل له:

لما كانت " منذ " تكون اسما وتكون حرفا، وكانت الأسماء أجمل للحذف من الحروف، آثروا الحذف لها في حالها اسما. فإذا جعلت: " منذ " لما أنت فيه صار حرفا بمنزلة " في "، وانخفض ما بعدها؛ وذلك أنك إذا قلت: " ما رأيته مذ يوم الجمعة "، فإنما معناه: انقطاع رؤيتي له ابتداؤه يوم الجمعة، وانتهاؤه الساعة؛ فتضمنت " مذ " معنى الابتداء

والانتهاء.

وإذا قلت: " ما رأيته مذ اليوم "، فليس فيه إلا معنى ابتداء الغاية، وهي في معنى " في " وانخفض ما بعدها.

وزعم بعض أصحابنا أن " منذ " و " مذ " هما اسمان على كل حال. فإذا رفعنا ما بعدهما كان التقدير على ما مرّ، وإذا خفضنا ما بعدهما كانا في تقدير اسمين مضافين، وإن كانا مبنيين كقوله تعالى: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (١) نضيف " لدن "، وإن كان مبنيا، إلى حكيم عليم، وإن كان ما بعدهما مرفوعا، فتقديرهما تقدير اسم مبتدأ، وما بعدهما خبرهما، ويكون من كلامين على النحو الذي قد تقدم.

ومثله في خفض ما بعده ورفعه: " كم " تقول: كم رجل جاءني " فتكون ":

" كم " بمنزلة عدد مضاف في الخبر. وتقول: " كم دراهمك " فتكون اسما في موضع الرفع خبرا لما بعدها، ويكون ما بعدها مرفوعا على الابتداء.

واستدل أصحابنا على خلاف هذا القول، وأنها حرف إذا انخفض ما بعدها بأن قالوا: رأيناها في الزمان تقوم مقام " من " وتكون لابتداء الغاية، و " من " حرف، فلا يجوز أن يكون ما في معناها وواقعا موقعها إلا حرفا.

فإن قال قائل: فإذا كانت: " منذ " و " مذ " على ما وصفتم من أمرهما، فلم كان الغالب على " منذ " أن يكون ما بعدها مخفوضا، وعلى: " مذ " أن يكون ما بعدها مرفوعا في الماضي؟


(١) سورة النمل، آية ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>