رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولاً. وما كذبت فيما قلت آخراً، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمته، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدته، ولقد صدقت في الأولى [١٥٢/ب] والأخرى جميعاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان لسحراً).
[٣٥٩٨] ومنه حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(هلك المتنطّعون) قالها ثلاثاً، أراد به المتعمقين الغالين في خوضهم فيما لا يعنيهم من الكلام، والأصل في المتنطع الذي يتكلم بأقصى حلقه، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى فيه آثار كالتحزيز، تخفف وتثقل، وإنما ردَّد القول ثلاثاً تهويلاً منه وتنبيهاً على ما فيه من الغائلة، وتحريضاً على التيقظ والتبصر دونه، وكم تحت هذه الكلمة من مصيبة تعود على أهل اللسان والمتكلفين في القول الذين يرومون بسبك الكلام سبى قلوب الرجال، نسأل الله العافية.
[٣٦٠٠] ومنه حديث الشريد بن سويد الثقفي (ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: (هل معك من شعر أية بن أبي الصلت شيء ....) الحديث.
قلت: إنما استنشده شعره؛ لأن أمية أيضاً كان ثقفيا، وكان أمية ممن ترهب قبل الإسلام، وكان حريصاً على استعلام أخبار النبي الموعود به من العرب مصدقاً بخروجه، فلما أخبر بأنه من أهل الحرم وأنه من قريش، قال: كنت أرجو أن يكون من قومي، وكان يشير بذلك إلى نفسه، فلما بلغه خروج النبي منعه الحسد عن الإيمان به، ولم يلبث أن مات وكان قبل معنياً بالحقائق، مكاشفاً بالعجائب، يشعر بذلك شعره، ولهذا كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يستنشد شعره.
وفي بعض طرق هذا الحديث أنه قال:(أسلم شعره وكفر قلبه).
ولما قدمت أخته القارعة بنت أبي الصّلت بعد فتح الطائف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت ذات نسب ومنصب وجمال، قال لها رسول الله يوماً:(أتحفظين من شعر أخيك شيئاً)؟ فأخبرته بخبره وما رأت منه، وأنشدته أبياته التي يقول فيها:
ما أرغب النفس في الحياة وإن .... تحيا قليلاً فالموت لاحقها
من لم يمت عبطه يمت هرماً .... للموت كأس والمرء ذائقها