للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما حديثة الذي ذكرناه وفيه استدبار الكعبة فيحتمل أنه كان [٤٣/ب] قبل النهي، ويحتمل أنه كان قد انحرف عن سمت القبل شيئا يسيرا بحيث خفى على ابن عمر أمره؛ ومما يدل على ذلك أن سمت القبلة بالمدينة لا يقع على السواء من سمت بيت المقدس بل بينهما مباينة، ولقد وجدت بعض أهل العلم ذكروا في كتبهم أن من استقبل بيت المقدس بالمدينة فقد استدبر الكعبة، وكنت أرى الأمر بخلافه لما شاهدت من التفاوت بين الموضعين في القبلة باستبانة آياتها من مطالع البروج ومغاربها، ومع ذلك فلم أعتمد على تلك المفايسة والشواهد الحسية حتى سألت أهل المعرفة بطول البلدان وعرضها عن ذلك، فبينوا لنا بالشواهد الهندسية تفاوت ما بين البلدين أعني: المدينة وبيت المقدس، فوجدنا طول المدينة على خمس وسبعين درجة وعشرين دقيقة، وعرضها على خمس وعشرين درجة، وطول بيت المقدس على ست وستين درجة وعشرين دقيقة وعرضها على اثنين وعشرين درجة ودقيقتين، وطول مكة على سبع وستين درجة وثلاث وثلاثين دقيقة وعرضها على إحدى وعشرين درجة وأربعين دقيقة، وإنما أضربنا عن بيان ذلك تخفيفا؛ لأنا لم نقتبس من ذلك العلم ما يحل به عقدة الإشكال ولا نحب أن يكون بصدده فاكتفينا بالنقل عمن يتعاطاه، فمن أحب الوقوف عليه بالبرهان من طريق الحساب فليراجع أهل هذا الفن فإنه يجد الأمر على ما ذكرناه.

قلت: قد روى عن جابر- رضي الله عنه- أنه قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها)، وقد حمل جابر الأمر في ذلك على النسخ، وحديثه هذا لا يقاوم في الصحة حديث أبي أيوب، ولو ثبت فلعله - صلى الله عليه وسلم - انحرف عناه يسيرا ولم يشعر به جابر، أو كان في بعض أسفاره بحيث تشتبه القبلة على كثير من الناس، فحسب أنه متوجها إلى جهة الكعبة ولم يكن كذلك، وإنما أولناه على هذا للجمع بين الأحاديث، ولما في هذين الحديثين، أعني حديث ابن عمر وجابر من احتمال التأويل، مع أن أحاديث النهي مشتملة على ذكر الاستقبال والاستدبار والغائط والبول، ولم نجد في حديث ابن عمر أنه استقبل الكعبة وفي هذا نوع من الترجيح، والله يعلم أنا لم نسلك هذا المسلك اعتداء ولا عصبية بل تقريرا لما هو الأحوط والأولى بأولى العزائم، والله يتولى السرائر.

[٢١٦] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد [٤٤/أ] أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). قال الخطابي: أصحاب الحديث يروونه (الخبث) ساكنة الباء، وكذلك رواه أبو عبيد في كتابه وقد فسره فقال: أما الخبث فإنه يعني به الشر، والخبائث فإنها الشياطين؛ قال أبو سليمان: وإنما هو الخبث مضمومة الباء جمع خبيث، وأما الخبائث فإنها جمع خبيثة، استعاذ بالله من مردة الجن ذكورهم وإنائهم، فأما الخبث ساكنة الباء فهو مصدر خبث يخبث خبثا، قلت: لقد أحسن

<<  <  ج: ص:  >  >>