ونرى التقسيم الذي جاء به الحديث التقسيم الذي جاء به التنزيل، قال الله -تعالى-: {إذا رجت الأرض رجا (٤) وبست الجبال بسا (٥) فكانت هباء منبثا (٦) وكنتم أزواجا ثلاثة} الآيات.
فقوله (راغبين راهبين) يريد بها عوام المؤمنين، وهو ذوو الهنات الذين يترددون بين الخوف والرجاء بعد زوال التكليف، فتارة يرجون رحمة الله لإيمانهم، وتارة يخافون عذابه لما اجترحوا من السيئات، وهو أصحاب الميمنة في كتاب الله على ما في الحديث الذي رواه أيضا أبو هريرة، وهو في الحسان في هذا الباب.
وقوله: (اثنان على بعير)، فالمراد منه أولوا السابقة من أفاضل المؤمنين وهم السابقون.
وقوله: (ويحشر بقيتهم النار) يريد به أصحاب المشأمة، فهذه ثلاث طرائق.
وقد ذكر في الحديث أن المذكورين من نجباء أهل الإيمان يؤتون بنجائب من نوق الجنة فيحملون عليها من المنشر إلى المحشر.
قلت: وحشرهم على الصورة المذكورة في الحديث يحتمل وجهين.
إما الحمل درجة واحدة تنبيها على أن البعير المذكور يكون من بدائع فطرة الله كناقة صالح فيقوى على ما يقوى
عليه غيره من البعران.
وإما الحمل على سبيل الاعتقاب، فإن قيل لا يجوز أن يحمل قوله: (واثنان على بعير) محل المجاز.
ويسلك به مسلك الاتساع، فيحمل ما يؤيد به أحدهم ويعان في المسير] ١٨٦/أ [إلى المحشر على حسب مكانته في العبودية ومثابته في الإخلاص.
قلنا: الأصل فيه الحقيقة ولا ضرورة بنا الى هذا التأويل مع استقامة الحديث على ظاهره.
فإن قيل: لم يذكر من السابقين من ينفرد بفرد مركب، لا يشاركه فيه أحد؟
قلنا: لأنه عرف أن ذلك مجعول لمن فوقهم في المرتبة من أنبياء الله؛ ليقع الإمتياز بين الأنبياء والصديقين في المراكب، كما وقع في المراتب.
فإن قيل: لم يذكر الخمسة والستة إلى إلى آخر ما ختم به من الكلام؟
قلنا: ايثارا للإيجاز، أو اكتفاء بما مر من ذكر الأعداد.
فإن قيل: فعلى هذا كان له في ذكر الثلاثة غنية عن ذكر الأربعة.
قلنا: لو أقتصر ذكر الثلاثة لم يتهيأ لنا الوقوف منها على ما تضمنه الكلام من العجب العجاب، وهو ركوب الأربعة فما فوقها على البعير الواحد، ولا على ما تضمنه من الدلالة على المعاقبة.
فإن قيل لم يسلك في العشرة مسلكه في بقية الاعداد المتروكة؟
قلنا: لأن في العشرة بيان الغاية منها، فإن لم يذكرها لاقتضى ذلك أحد الأمرين اما التوقيف على الأربعة، أو التبليغ لما فوق العشرة.