للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليعلم أن همم أهل الدين موقوفة على المعاني المطلوبة دون القوالب المعمولة، وتأويل هذه الرؤيا راجع إلى السياسات الدينية التي تحتمل الاستخلاف، وتتم به دون الأنباء النبوية، لا تقبل الاشتراك، ولهذا لم تختلف صيغة الرؤيا في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حال الشيخين. وفيما ذكره عن حال كل واحد من الشيخين إشارة إلى قصر مدة الأول منهما، والاضطراب الذي يوجد في زمانه من قبل أهل الردة، وإلى امتداد زمان خلافة الثاني، واتساع رقعة الإسلام وكثرة الفتوح، وعلى هذا النحو أوله جمع من أهل العلم، وقد بقيت عليهم بقية وهي إهمالهم بيان قوله (والله يغفر له ضعفه).

والعباد وإن لم يخل منهم أحد في حقوق الله عن تقصير ما، فإن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في معرض ما ذكر عنه مشعر بشيء من التقصير، ولم يكن منه- بحمد الله- تقصير فيما تولاه، كيف وقد قام بالأمر- على فترة من لناس، وارتداد أقوام من العرب واتباعهم ذا الخمار ومسيلمة وطليحة، وامتناع آخرين عن أداء الصدقة إلى الإمام- أحسن قيام، ودبره أتم تدبير، وبه كفى الله المؤمنين شرهم، وكف به بأسهم واستأصل شأفتهم، حتى ضرب الدين بجرانه، واستقر الحق في نصابه.

والوجه في ذلك أن نقول: إنه لما ذكر ضعف نزعه الذي يؤول إلى ما حدث في زمانه على ما ذكرنا دعا له بالمغفرة في كل ضعف بتداركه في أمره ذلك، أو أخبر بأن الله قد غفر له ضعفه؛ ليتحقق عند السامعين أن الضعف الذي وجد في نزعه لما يقتضيه تغير الزمان وقلة الأعوان غير راجع إليه بنقيصة، فهو فيما يتوهم منه الضعف؛ [لأن لا ضعف له]، فكيف فيما يقوى عليه؟ ويحتمل أنه أحوج في بعض السياسات إلى ملاينة ما لم يكن يأمن غائلة الإمضاء فيه، فأخبر بأنه معان موفق مسدد في ذلك؛ لما ينتابه من التأييد الإلهي، ومما ينبئك عن نظام هذا التأويل أن أبا بكر- رضي الله عنه- لما أتى بالأشعث بن قيس مكبلا وكان قد ارتد، فقال لأبي بكر- رضي الله عنه- (استبقني لحربك زوجني أختك)، فأطلقه زوجه أم فروة بنت أبي قحافة- رضي الله عنها- وروى الطبراني بإسناده في أول كتاب المعجم أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال: ثلاث قد فعلتها ووددت أني لم أفعل: وددت أني كنت أمرت بقتل الأشعث يوم أتيت به ..) الحديث. عد ذلك على نفسه [٣٢٥] مما غيره خير منه، ولم يفعل ذلك إلا توقيا من غائلة قومه، واستمالة لقلوبهم.

وفيه: (ثم استحالت غربا) أي: انقلبت عن حلها التي كانت عليها، والغرب: الدلو العظيمة، و (غربا) مميزا اسحالت الدلو.

وفيه: (فلم أر عبقريا) العبقر: موضع تزعم العرب أن الجنة تسكنه، فنسبوا إليه كل ما يعجبوا منه قوى وحذق وجودة صنيعة، وقد مر تفسيره بأكثر من هذا.

وفيه: (حتى ضرب الناس بعطن) يريد: حتى رووا وأرووا إبلهم، فأبركوها وضربوا لها عطنا، والعطن: مبرك الإبل حول الماء. وفي الرواية الأخرى: (يفرى فريه) يقال: فلان يفرى الفري: إذا كان يأتي بالعجب في عمله. وقد مر بيانه.

<<  <  ج: ص:  >  >>