الاستفهام إيثارا للتخفيف، والفاء في قوله (فأتوضأ) هي الناصبة بعد الاستفهام أشار بقوله هذا إلى أن الوضوء شرع لإقام الصلاة لا لأكل الطعام، وإنما قال لذلك لئلا يشق على الأمة، وليفتح عليهم باب التيسير والرخصة، ولم يرد به نفي الفضيلة كيف وقد علمنا بأصل السنة (٥٣/ب) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أن يذكر الله على طهر، ومن سنته أن يبدأ عند الطعام بذكر الله ويختم الأمر فيه الحمد الله وثنائه، فعرفنا بذلك استحباب الطهارة حالة الأكل، وأنها من أبواب العزيمة، وأن الثواب مرجو فيها والبركة مغتنمة.
[٢٩٩] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ميمونة- رضي الله عنها- (إن الماء ليس عليه جنابة) معناه: إن الماء إذا غمس فيه الجنب يده لم ينجس، وإنما قال ذلك؛ لأن القوم كانوا حديثي عهد بإسلام، وقد أمروا بالاغتسال عن الجنابة كما أمروا بتطهير البدن عن النجاسة، فربما يسبق إلى فهم أحدهم أن العضو الذي عليه الجنابة في سائر الأحكام كالعضو الذي عليه النجاسة فيحكم بجنابة الماء من غمس عضو الجنب فيه كما يحكم بنجاسته من غمس العضو النجس، فبين لهم أن الأمر بخلاف ذلك.
[٣٠٠] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب فيغتسل ثم يستدفئ بي قبل أن أغتسل) جنب الرجل وأجنب واجتنب وتجنب إذا صار جنبا، ورجل جنب وامرأة جنب وقوم جنب، وربنا قالوا في جمعه أجناب وجنبون، وسميت جنابة لكونها سببا لتجنب الصلاة؛ ولأن الجنب نهى أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، فتجنبها وأجنب عنها أي: تباعد منها تقولها يجنب بضم الياء وكسر النون، ويجوز أن يفتح منه الياء ويضم النون.
وقولها (يستدفئ بي) الدفء السخونة يقال منه دفئ الرجل دفاءة مثل كره ودفأ مثل ظمئ ظمأ واستدفأ به وهو افتعل أي لبس ما يدفئه، ومعنى اللفظ أنه كان يجعلها من نفسه مكان الثوب الذي يستدفئ به ليجد السخونة من يديها، وإنما ذكرت ذلك في استدفاء الرجل بامرأته وهي جنب في حالة التعري بحيث تمس بشرتها- وهي جنب- بشرته، وقد اغتسل؛ لأن استدفاءه بها بن البشرتين ما يمنع عن الامتساس مما لا حاجة إلى بيانه.