ووجه التوفيق بين هذه الأحاديث: أن نقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب في كل منها بما علن أنه يوافق غرض السائل، أو أجاب بما كان ترغيبا للسائل فيما هو بصدده أو أجابه على حسب ما عرف من حاله توقيفا له على ما خفى عليه من باب الفضيلة أو إرشادا له إلى ما هو الأصلح له والأحرى به ففي حديث ابن مسعود علم أن السائل يسأل عن الأعمال البدنية المفروضة على الإنسان كالصلاة والزكاة والصوم والحج فقال الصلاة لوقتها.
وفي حديث أبي ذر علم أنه يسأل عن كل ما يتقرب به إلى الله فذكر الإيمان الذي هو من أعمال القلوب المعبر عنه بالألسنة وذكر الجهاد بعد الإيمان دون سائر الأعمال المفروضة لأحد المعنيين إما لاكتفائه بذكر الإيمان عنها؛ لأنها من لواحق الإيمان وتوابعه المنصوصة عليها أو لأنه أراد أن يعرف السائل موقع الجهاد من الدين فجعله في الخيرية مقترنا بالإيمان؛ لأنه السبب الداعي إلى الإيمان والخلة المظهرة لكلمة الله العليا لاسيما في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان من أجل القربات وأعظم المثوبات؛ لاشتماله على إظهار الدين ونصرة [٦٣/أ] الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا المعنى أقرب من الأول، وفي معناه حديث أبي سعيد الخدري.
وفي حديث عائشة أجاب على ما وجده ملائما لحال السائل وجعل الجعل أحسن من الجهاد نظرا إلى ضعف منتهن عن القيام به وإشارة إلى أن الحج أليق بهن وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر:(إنما جهادكن الحج). وأما الحديث الآخر أنه - صلى الله عليه وسلم - (سئل ما أفضل الأعمال فقال جهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة) وأراه من رواية عبد الله بن حبشي رضي الله عنه فإنه يطلق على أفضل ما كان الرجل بصدده من الأعمال وقد يقول القائل خير الأشياء كذا ولا يريد تفضيله في نفسه على جميع الأشياء ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال ولواحد دون آخر وذلك مثل قول في موضع يحمد فيه السكوت ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال لواحد دون آخر وذلك مثل قولك في موضع يحمد فيه السكوت لا شيء أفضل من السكوت وقولك حيث يحمد الكلام لا شيء أفضل من الكلام وقد تعاضدت النصوص وتعاونت على فضل الصلاة على الصدقة ثم إن تجددت حال تقتضى مواساة مضطر أو يفتقر معا إلى الماء لإصلاح ذات البين فيكون الصدقة حينئذ أفضل من الصلاة هذا وقد ورد في أحاديث أخر ما يدل على فضل الحج على الجهاد تارة وعلى فضل الجهاد على الحج تارة أخرى.
ووجه التوفيق بينهما أن نقول الأمر في كل واحد من الحديثين مبنى على اختلاف أحوال العباد فمن أدركته فريضة الحج فالحج أفضل له؛ لأن ما هو فرض على الكفاية لا يقاوم ما هو فرض لعينه وإن لم يتعين عليه وكان من ذوي النجدة والبأس فالجهاد في حقه أفضل وإن كان ممن لا يسد مسدا ولا يغنى غناء بحيث لا يكون بالمسلمين حاجة إليه فالحج أفضل له وإذا استوت الحالان وكان في كل واحد من الأمرين متبرعا فلا شك أن الجهاد أفضل لعموم نفعه وشمول فائدته في صلاح العباد والبلاد وإلى مثل هذه الحالة أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النضير بن حارث القرشي العبدري- رضي الله عنه- حيث قال: يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله قال (الجهاد والنفقة في سبيل الله).
قلت وكل ما لم يذكره من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال فالسبيل إلى استخراج معانيها على ما ذكرناه في تلك النظائر وقد أوضحت مبان هذا الحديث بابا معظما من علم المعاني لم تدبره من ذوي الفهم [٦٣/ب] والله الواهب المنان الملهم للصواب.