استخفافاً بأمر الدين [٧٨/ب]؛ لأن من حق الصلاة أن تؤدى في الأمكنة النظيفة والبقاع المحترمة. وكذلك المجرزة؛ لأنها مسفح الدماء وملتقى القاذورات، واشتقاقها من الجزر، تقول: جزرت الجزور أجزرها- بالضم- إذا نحرتها وجلدتها، والمجزر بكسر الزاي موضع جزرها.
وكذلك القول في الحمام، لأنه مكثر الأوساخ، ومجتمع الغسالات؛ ثم إنه محل تعري الأبدان عن اللباس- وأما المقبرة فإن علة النهي فيها من وجهين، أحدهما: احتمال نجاسة المكان مع مجاورة النجس على ما ذكرناه في المجزرة والحمام؛ والآخر: اتخاذ القبور مساجد استنانا بسنة اليهود.
فإن قيل: فما وجه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)؟! قلنا: في إسناد حديث أبي سعيد هذا اضطراب؛ فلو ثبت فالوجه فيه تأكيد النهي فيها واجتماع العلل المعتد بها في النهي في هذين الموضعين على ما ذكرنا، وتقدير الكلام: الأرض الطيبة كلها مسجد؛ إلا المقبرة والحمام؛ فاختصر لعلم المخاطبين، وأراد بكونها مسجدا من وجه الاختيار، وطلب العزيمة، لا من وجه الرخصة والجواز. والاستثناء في هذين الموضعين من جملة الأرض لا يكاد يصح إلا على الوجه الذي ذكرناه ومن جعل علة النهي فيهما النجاسة فقد أحال؛ لأن المواضع النجسة غير منحصرة فيهما.
وأما علة النهي في قارعة الطريق فهي من وجهين: أحدهما احتمال نجاسة المكان، والآخر أن المصلي دونها لا يأمن أن يقطع المارة عليها صلاته، ولو صلى مصل في هذه المواطن وكان الموضع الذي يصلي فيه طاهرا جازت صلاته مع الكراهة؛ لمكان النهي من غير تقييد.
وأما علة النهي عن الصلاة على ظهر بيت الله؛ فإن بعض العلماء صرف النهي فيها إلى حال فقد السترة بين يدي المصلي على ظهر البيت، وقد ذهب بعضهم إلى خلاف ذلك، وقال: الحكم للبقعة لا للبناء، والذي يصلي فوقها متوجه إلى جزء منها، والصلاة فوقها كالصلاة في جوفها؛ وإذا صحت صلاة من يصلي بحضرة الكعبة فوق ابن قبيس، والكعبة تحته، وهو متوجه إلى ما فوقها من الجهة، فبالحري أن تصح صلاة من يتوجه إلى جزء منها؛ ثم إن النهي مطلق لم يقيد بعدم السترة.
قلت: ولست أدري بماذا عللوا النهي؟! والذي نهتدي إليه من علة النهي أن الصلاة على ظهر البيت تفضي إلى ارتقاء سطح البيت، وذلك مخل بشرط التعظيم، لمشابهته صنيع أهل العادة [٧٨ م/أ] في استعلاء البيوت للتطلع والتفرج؛ ثم لخلوه عن الفائدة، ومن انتهى إليه هذا الحديث بطريق يصح الاحتجاج فعليه التسليم لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ علم علة النهي أو لم يعلم. ولقد شاهدت من كرامة ذلك البيت المبارك أيام مجاورتي بها أن الطائر كان لا يمر فوقه، وكثيرا كنت أتدبر تحليق الطير في ذلك الجو، فأجدها مجتنبة عن محاذاة البيت، وربما انقضت من الجو حتى تدانت، فطافت به مرارا ثم ارتفعت. ومن آيات الله البينة في كرامة ذلك البيت أن حمامات الحرم إذا نهضت للطيران طافت حوله مرارا من غير أن تعلوها،