قلت: ومن ذهب في معناه إلى التبكيلا: فإنه اصاب أيضاً وسلك طريقاً حسناً من طرق الاتساع؛ وذلك أنه جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار، ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة؛ وله نظائر من كلامهم؛ كقولهم في طرفي النهار:(الغداة، والعشي) ثم إنهم جعلوا النهار نصفين، فسموا النصف الأول: غداة، والنصف الثاني: عشياً.
ونرى هذا الوجه أشبه الوجهين؛ لحديثه الآخر؛ أن رسول الله قال:(من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح [١١٧/ب]: فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية: فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة: فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة: فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذكر)؛ وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري في كتابه (كتابه) عن أبي هريرة؛ فتقسيم اوقات الرواح على الساعات الخمس: يبين لنا أن المراد من التهجير: التبكير؛ لتضايق ما بعد الزوال عن تلك الساعات.
ومما يدل أيضاً على هذا المعنى: أنه قال في أول الحديث: إذا كان يوم الجمع، وقفت الملائكة)، ولم يقل:(إذا كان وقت الجمعة).
فإن قال قائل:(أفلا يصح أن تحمل الاساعات على المجاز والتوسعةفي الكلام، كقول القائل: انظرني ساعة، وارعني سمعك فأحدثك ساعة؛ ونحو ذلك مما لا يراد به التحديد، وأن يراد بـ (يوم الجمعة) بعض اليوم، وذلك هو الزمان الذي يتعين عليه الرواح بدخول وقت الزوال؟).
قلنا: إما من طريق اللهجة العربية، فإنه قول قويم، ولم ننكر التأويل عليه، غير اننا نرى الذهاب إلى التبكير في هذا الحديث أولي؛ لأن القول بالاتساع في التهجير أقرب من القول به في الساعات الخمس. مع أنا - وإن ذهبنا فيها إلى الاتساع - فلا غنية بنا عن تبيين تلك الساعات وتقديها؛ لنهتدي إلى مقادير الفضل بين السابق واللاحق، وذلك - أيضاً - يستدعي زماناً ممتداً قابلاً للتسقيم الذي أتى به الشارع فاصلاً للمرابت التي بينها، ونرى حمل قوله:(إذا كان يوم الجمعة) على الساعات المبتدأة - أوقى وأولى من حمله على الساعات المتوسطة؛ لمكان الشرط، وتعلق الحكم به.
وقوله:(فكأنما قرب دجاجة):
أي: تصدق بها متقرباً بين يدي الله، وكذلك القول في قوله:(قربت بيضة).