للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جعفر، عن أبيه، عن رجل من مزينة، أنه أتى أمه، فقالت: يا بني لو ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته؟ قال: فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يخطب الناس، وهو يقول: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن سأل الناس وله عدل خمس أوراق فقد سأل إلحافا).

قال: فوجه التوفيق أن نقول: أول المقادير التي حرمت بها المسألة، هو المقدار الذي في حديث سهل ابن الحنظلية، ثم تلاه تحريمها بما في حديث الأسدي، ثم بما في حديث ابن مسعود، ثم بما في حديث المزني، فنسخ الثاني الأول، والثالث الثاني، والرابع الثالث، وتناهي تحريم المسألة على ما هو في حديث المزني، وهو القدر الذي يتجاوز به صاحبه عن حد الفقر إلى حد الغنى.

وإنما قلنا: إن الأكثر ناسخ للأقل؛ لأن الله- سبحانه- إنما يرد الأمر من الأخف إلى الأغلظ، إذا كان عقوبة، وإذا كان رحمة رده من الأغلظ إلى الأخف، وإذا لم يذكر تحريم المسألة لذنب استحقوا عليه تلك العقوبة به؛ رأينا أنه رحمة من الله تعالى رد العباد فيه من التغليط إلى التخفيف، ورحم الله أبا جعفر، فإنه لم يزل يجتهد في نفي الإحالة والتناقض عن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رفع علما من هذا العلم يهتدي به الدراجون في هذا الطريق إلى معالم المعاني، ونحن نقتفي في هذا الباب ما نرجو إن خالفناه فهو الذي علمنا الخلاف، فمن ذلك ما رأيناه في هذه الأحاديث الأربعة، أن العباد ردوا فيها من الأخف إلى الأغلظ، وأن الأقل ناسخ للأكثر، لما وجدنا في الحديث من الدليل أن السبب في تحريم المسألة سؤال الأعرابي الذي سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رداءه، وهو حديث حبشى بن جنادة- رضي الله عنه- والحديث مذكور في كتاب المصابيح في هذا الباب، إلا أنه اختصر، وقد رواه أبو عيسي [١٤٨/أ] في كتابه بتمامه، ولفظ حديثه: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع، وهو واقف بعرفة، أتاه أعرابي، فأخذ بطرف ردائه، فسأله إياه فأعطاه، فعند ذلك حرمت المسألة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن المسألة لا تحل لغنى ولذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرن مفظع، ومن سأل الناس ليثرى به ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر) فتبين لنا من هذا الحديث أن تحريم المسألة كان لأجل إلحاح الأعرابي في السؤال، ومجاوزته حد الأدب في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما في ذلك المجمع العظيم الذي لا ينبغي أن يسأل هنالك إلا عفو الله وغفرانه والدار الآخرة، ولم يحرم قبل ذلك، فحرمت لأجل مسألته.

والتحريم على هذه الصيغة إنما يكون على وجه العقوبة، وإذ لم ينتهوا، ضيق عليهم فيها، فلم يزالوا يناقصون في تلم المقادير، حتى أل الأمر إلى تحريمها على من يجد غداء أو عشاء؛ لأنه استغني بذلك في ساعته تلك عن السؤال، وإنما أبيحت المسألة لضرورة ولا ضرورة هنالك، والله أعلم.

ونرى فيه وجها آخر: وهو أن نقول: قد علمنا بالأحاديث الصحاح أن السؤال من غير ضرورة وحاجة ماسة منهي عنه، غير مرضى للمؤمن، فإنه يورث المذلة في الدنيا، والمنقصة في الدين، ثم إن الناس مختلفون في حال السؤال، اختلافهم في الصبر والاحتمال والمؤن والضرورات، فاختلاف بيان المقادير صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على حسب مراتب الناس في ذلك، وعلى مقدار ما عرف من حال السائل، ونهاية المقادير في ذلك ما تبلغ بصاحبه إلى حد الغني، وهو النصاب، وهذا المقدار لا يحل معه المسألة، ولا الصدقة، والمقادير الآخر على ما بينا من حكم الضرورة لا تحل معها المسألة، وتحل معها الصدقة، فإنه لم يذكر في

<<  <  ج: ص:  >  >>