معنى ذلك - والله أعلم - أنه ثبت ذلك في اللوح المحفوظ أو غير ذلك من مطالع العلوم الغيبية وفي أكثر نسخ المصابيح بل في سائرها الحديث إلا ما أصلح (أنزل فيه آيتين) والرواية (أنزل منه) أي: أنزل من جملة الكتاب المذكور آيتين ختم بهما سورة البقرة فإن قيل كيف يصح حمل ذلك الكتاب على اللوح المحفوظ وقد ذكر أنه كتب قبل خلق السموات والأرض بألفي عام.
وفيه في الحديث الصحيح الذي يرويه عبد الله بن عمرو:(كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة). وهو محمول عند الأكثرين على أنه كتب في اللوح المحفوظ فإن كل كائن مكتوب فيه.
قلنا: وقد ذهب بعض أهل التفسير إلى أن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ وعلى هذا فلقائل أن يقول كتب في أم الكتاب ثم أبرز بعده في اللوح المحفوظ. قلت: وهذا قول لا حقيقة له عندنا فالأولى أن لا نتبعه بالظن والتخمين بل نقول: إن كان الكتاب المذكور في حديث نعمان بن بشير غير الذي في حديث عبد الله بن عمرو فالأمر فيه بين، فإن كانت الإشارة في الحديثين إلى كتاب واحد فالوجه فيه أن نقول اختلاف الزمانين في إثبات الأمرين لا يقتضي التناقض بين الحديثين؛ لأن من الجائز أن لا يكون مظهر الكوائن في اللوح المحفوظ دفعة واحدة بل ثبتها الله شيئا فشيئا، ويكون المراد في هذا الحديث نوعا مكتوبا في اللوح من الأنواع المكتوبة فيه فيكون أمر المقادير على ما [ذكروا من] النوع الذي أنزل فيه آيتين على ما [ذكر].
فإن قيل: كل ما أخبر عنه الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لابد وأن يكون خبره به متضمنا لفائدة فما فوقها. فما الفائدة التي يتضمنها هذا الخبر؟
قلنا: تعريفه إيانا فضل الآيتين؛ فإن سبق الشيء بالذكر على سائر أنواعه وأجناسه يدل على فضيلة مختصة به من بين تلك الأجناس والأنواع، ومن هذا القبيل قوله (- صلى الله عليه وسلم -)(إني عبد الله في أم الكتاب وإن آدم لمنجدل في طينته) أي كنت مذكورا في أم الكتاب قبل خلق آدم ولم يرد بذلك أنه ذكر في أم الكتاب يومئذ وإنما أراد به أنه كان مذكورا قبل خلق آدم. وبقي الأمر [١٧٧/أ] فيه على الاحتمال أن يكون ذلك السبق من [معاني تمييزه] وبأحقاب كثيرة أو بما بين ذلك وهذا الحديث - أعني [الحديث] نعمان بن البشير - يدل على أنه كان مذكورا قبل خلق السموات والأرض بألفي عام، سوى ما يحتمله من الزيادة؛ لأن التنزيل يتضمن ذكر المنزل عليه ويبين خصيصاه بتلك الكرامة.
وحديث [أبي هريرة] الذي في هذا الباب عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -)(إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام) لو ثبت لم نحتج فيما ذكرناه إلى حجة أخرى؛ لأن الله تعالى إذا أظهر شيئا من الكتاب الذي قدر إنزاله على عبده وأبرزه لحملة عرشه والطائفين حوله فقد رفع ذكر ذلك المنزل عليه ونوه باسمه لا سيما وفيه ذكره وحجته وبيان ما أرسل به ومن عليه به غير أن في إسناده مقالا.
فإن قيل: ولو ثبت أو ليس ما في السورتين من ذكر غيره من الأنبياء ينقض عليكم تلك [القالة] قلنا: لو ثبت الحديث فلا خفاء بأن ذكر المذكورين فيهما من الأنبياء تبع لذكره وإذا كان ذكره هو الأصل وذكر غيره كالفرع له لم ينقض ذلك ما استبنينا عليه القول، وإن لم يثبت فنحن في غنية من الاستدلال به لما ورد في هذا الباب من الدلائل في أحاديث الإثبات.