للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[١٨٣/أ] لي، وقال: (أشركنا يا أخي في دعائك). الرواية في (أخي) - على ما بلغنا - بلفظ التصغير، وليس المراد منه ومن نظائره في هذا الباب معنى التصغير بل الاختصاص بالتلطف والتعطف هو المراد. وفي معناه قول الله سبحانه في عدة مواضع فيما قص علينا من أمر عبده لقمان: {يا بني}، وكذلك في قصة يوسف عليهما السلام.

وأما مساءلته عمر - رضي الله عنه - أن يشركه فيما يدعو به لنفسه فإنها محتملة لوجوه: أحدها: استشعار الخضوع وإظهار الفاقة في مواقف العبودية بالتماس الدعاء ممن عرف السبيل بهدايته، وأصاب الرحمة ببركته. والثاني: تحريض الأمة على حسن الرغبة في دعاء إخوانهم من المؤمنين، والتجافي عن الرغبة عنهم لتوهم الاستغناء؛ مع إحاطة العلم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أغنى الناس عن دعاء عمر وغيره. والثالث: تعليم المؤمنين ألا يرغبوا بأنفسهم في مظان الرجاء، ومواقع الطلب. والرابع: إرشاد المسئول إلى ما هو الأصلح له، والأولى به؛ إذ كان يعلم - صلى الله عليه وسلم - أن عمر ينتفع بدعائه له أكثر مما ينتفع بدعائه لنفسه.

والخامس: الإشادة بذكره في مسامع السامعين. والسادس: تعريفه بما أنعم الله عليه؛ ليقوم بواجب الشكر. وأي طريق سلكناه في تأويله فإنه لا يخلو عن الحجة الناطقة بفضل عمر - رضي الله عنه - وفيه: (وقال لي كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا) يحتمل أن تكون الكلمة المذكورة قوله (يا أخي أشركنا في دعائك)، ويحتمل أن تكون قضية أخرى لم يرد يصرح بها توقيا عن استحلاء الطبع وغير ذلك بما لا يؤمن عليه من آفات النفوس. فإن قيل: أوليس قد حدث بما حدث، ولم يحل ذلك عن مثل ما يدعى فيه التوقي قلنا: يحتمل أنه حدث به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدث به على ملأ من الناس، ثم إنا قدرنا القول على ما قدرنا نظرا إلى علم عمر الله، وخشيته منه، ومعرفته بآفات النفوس وتباعده من حب الثناء والمحمدة، وإلا فالمسألة التي نحن ننقر عنها بمعزل عن هذه [١٨٣/ب] التقديرات سؤالا وجوابا، وذلك لأن الثناء إذا كان من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان متجانبا عن مظان الآفات ويحق من صاحبه أن يتحدث به لوجهين: أحدهما: أنه قول صدر عمن أيد بالعصمة في مقاله بل في سائر أحواله فيحق أن يسر به ولا يسر به؛ لأنه الحق الأبلج والبشرى من الله العزيز.

والآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عارف بأوضاع الأمة لا يواجه أحدا منهم بتزكية أو ثناء إلا وقد ألهم سلامته عما يتوقع في ضمن ذلك من الآفة، وما أحق هذا الوجه بالصواب وهو الذي سأل الله تعالى أن يجعل لعنه وشتمه وضربه لمن قصده به زكاة ورحمة، فأنى يتوهم أن يعود مدحه ذما، أو يعود ثناؤه وبالا، فأبى الله ذلك، ويأباه من نور الله قلبه بالإيمان.

<<  <  ج: ص:  >  >>