أحدهما أن نقول: لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم القلوب صفاء، وأكثرها ضياء وأعرقها عرفاناً) وكان معنياً مع ذلك بتشريع الملة، وتأسيس [السنة] ميسراً غير معسر، لم يكن له بد من النزول إلى الأخص والألفات إلى حظوظ النفس مع ما كان ممتحناً به من أحكام البشرية، فكان إذا تعاطى شيئاً من ذلك أسرع [كدورتها] إلى القلب لكمال رقته وفرط نورانيته، فإن الشيء كلما كان أرق وأضفى كان ورود التأثيرات عليه أبين وأهدى. وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أحسن بشيء من ذلك عدّه على النفس ذنباً فاستغفر منه، ولهذا المعنى كان استغفاره عند خروجه من الخلاء فيقول غفرانك.
والآخر أن نقول: إن الله تعالي كما فناه عن العالين، أراد أن يبقيه لهم لينتفعوا به، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لو ترك وما هو عليه وفيه من الحضور والتجليات الإلهية لم يكن ليتفرغ لتفرغ لتعريف الجاحد وتعليم الجاهل فاقتضت الحكمة الإلهية أن يرد إليهم الفينة بنوع من الحجبة والاستتار ليكمل حظهم فيرى ذلك من سيئات حاله فيستغفر منه، والله أعلم.
[١٦٠٣] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر-رضي الله عنه- (إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر)، المخيط بكسر الميم بعدها خاء مجزومة: الإبرة، وكذلك الخّياط.
قلت: وهذا كلام خرج مخرج المعهود من كلام الناس على سبيل الاتساع، فإن الذي تناه الإبرة من بلل البحر، وإن دق لا يخلو من نقصان ما، ومثل ذلك وما هو أدنى منه، لا مدخل له في سعة فضل الله وغناه.
وفيه:(إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها)، أحصيها أي: أحفظها عليكم، فلا تعزب عن علمه مثقال ذرة، ومنه قوله سبحانه:{أحصاه الله ونسوه} وقوله: (أوفيكم إياها) أي: (أجزيكم) بها كاملة موفرة وأطلعكم عليها بالتمام. وتوفية الشيء: بذله وافياً، واستيفاؤه: تناول وافياً.
[١٦٠٤] ومنه: قوله صلى الله عليه في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (فنأى بصدره نحوها)