وقيل: أراد به: الأولاد والأعقاب، وهذا وجه لولا قوله:(واجعله الوارث منا)[٢٤].
فإن رد الضمير إلى أحد الأشياء الثلاثة المذكورة أو إلى سائرها غير مستقيم، وقد ذكر أبو سليمان الخطابي في ذلك وجهين، ولكن لفظ الحديث الذي أوله على غير لفظ هذا الحديث، فإنه أو الحديث الذي يقول فيه:(اللهم عافني في سمعي بصري ما أبقيته، واجعله الوارث مني) ثم قال في قوله: (واجعله): إنه رد الضمير إلى واحد منهما، والعرب تفعل ذك، وقال فيه وجهاً آخر، فقال: كل شيئين تقارباً في معنييهما: فإن الدلالة على أحدهما دلالة على الآخر.
قلت: ولفظ الحديث الذي نحن نتكلم فيه غير محتمل لأحد الوجهين على ما بينا، وقد روى هذا الحديث- أيضاً- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير الوجه الذي أوردناه وهو قله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني).
قلت: وقد ذهب بعض العلماء في تأويله أنه أراد بالسمع والبصر: أباب بكر وعمر- رضي الله عنهما- واستدل بقوله:(لا غنى بي عنهما)؛ فإنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر من الرأس، وبقوله:(هذان بمنزلة السمع والبصر) قالوا: فكأنه - صلى الله عليه وسلم - دعاء بأن يمتع بهما في حياته، وأن يرثاه بعد وفاته.
وأبى جمع من العلماء أن يكن لهذا الحديث تأويل غير ذلك، ولا مرد عليهم، فإن هذا الحديث حديث صحيح، والتأويل مستقيم؛ غير أن الحديث على ما في (كتاب المصابيح) لا يحتمل ذلك، ولا نجد عنه مخلصاً إلا من فرد وجه، وهو أن نقول: الضمير في قوله: (واجعله) راجع إلى التمتع الذي دل عليه قوله: (متعنا) والتقدير: متعنا، واجعل تمتعنا به الوارث منا، ويكون (الوارث منا) على أحد المعنيين: الباقي بعدنا؛ لأن وارث المرء لا يكون إلا الذي يبقى بعده، ومعنى بقائه: دوامه إلى يوم الحاجة إليه، أو الذي يرث ذكرنا فنذكر به بعد انقضاء الآجال وانقطاع الأعمال، وهذا المعنى شبيه بسؤال خليل الرحمن- صلوات الله عليه- {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}.
وفيه:(وجعل ثأرنا على من ظلمنا):
الثأر والثورة [الذحل]، والأصل فيه: الحقد والعداوة، يقال: ثأرت القتيل، وبالقتيل، أي: قتلت قاتله، والثائر: الذي لا يبقى على شيء حتى يدرك ثأره، والحديث محتمل لمعنيين.
أحدهما: اجعل إدراك ثأرنا على من ظلمنا، فندرك ثأرنا منهم، ويكون في معنى قوله:(وانصرنا على من عادانا).
والآخر: لا تجعلنا [٢٥] ممن إذا ظلم تعدى على جانيه في إدراك ثأره بنوع من التعدي؛ كما كان معهوداً من أهل الجاهلية، فيرجع ظالماً بعد أن كان مظلوماً، بل صبرنا على ما أصابنا، وأجرنا من التعدي حتى يكون الثأر لنا عليه لا له علينا.