جملة رواحله فأضافها إليه. وأشعر الهدى إذا طعن في سنامه الأيمن حتى يسيل منه دم، ليعلم أنه هدى، من قولهم: شعرت كذا أي علمت. ومنه الإشعار في الحرب، وهو ما يشعر به الإنسان (٤٠ ب/ج ٢) نفسه في الحرب، أي يعلم.
وقوله:(وسلت الدم) أي: أماطة، وأصله القطع، يقال: سلت الله أنفه، أي: جدعه، وفي بعض طرق هذا الحديث:(وأماط عنه الدم).
قلت: وقد كان هذا الصنيع معمولاً به قبل الإسلام؛ وذلك لأن القوم كانوا أصحاب غارات لا يتناهون عن الغصب والنهب، ولا يتماسكون عنه، وكانوا مع ذلك يعظمون البيت وما أهدى إليه، ولا يرون التعرض لمن حجه او اعتمره، وكانوا يعلمون الهدايا بالإشعار والتقليد؛ ذلك بأن يقلدوها نعلاً، أو عروة مزادة، أو لحاء شجرة، لئلا يتعرض لها متعرض، فلما جاء الله بالإسلام، أقر ذلك لغير المعنى الذي ذكرناه؛ بل ليكون مشعراً بخروج ما أشعر عن ملك صاحبه، وجعلها مجعل ما يتقرب منه إلى الله، وليعلم أنه هدى، فإن نفر لم يركب ولم يحلب، ولم يختلط بالأموال، ولم يتصرف فيه كما يتصرف في اللقطة، وإن عطب لم يؤكل منه، إلا على الوجه الذي شرع.
هذا وقد اختلف في الإشعار بالطعن وإسالة الدم؛ فرآه الجمهور، ونفر عنه نفر يسير، وقد صادفت بعض علماء الحديث يشدد في النكير على من يأباه حتى أفضى به مقالته إلى الطعن فيه، والادعاء بأنه عاند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبول سنته ويغفر الله لهذا الفرح بما عنده؛ كيف سوغ الطعن في أئمة الاجتهاد وهم لله يكدحون وعن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يتناضلون، فأنى يظن بهم ذلك؟ أو لم يدر أن سبيل المجتهد غير سبيل الناقل، وأن ليس للمجتهد أن يتسارع إلى قبول النقل والعمل به إلا بعد السبك والإتقان، وتصفح العلل والأسباب، فلعله علم من ذلك ما لم يعلمه، أو فهم منه ما لم يفهمه، وأقصى ما يرمى به المجتهد في قضية يوجد فيها حديث فخالفه: أن يقال: لم يبلغه الحديث، أو بلغه من طريق لم ير قبوله، مع أن الطاعن لو قبض له ذو فهم، فألقى إليه القول من معدنه وفي نصابه، وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق بعض هديه من ذي الحليفة، وساق بعضها من قديد، وأتى على-رضي الله عنه- ببعضها من اليمن، وجميع ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - على الثبت إما ست وثلاثون أو سبع وثلاثون بدنة، والإشعار لم يذكر إلا في واحدة منها.
وقد روى أيضاً عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى هديه من قديد، والقديد: قرية بين مكة والمدينة، وبينها وبين ذي الحليفة مسافة بعيدة، أفلا يحتمل أن يتأمل المجتهد في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[٤١/أ] إنما أقام الإشعار في واحدة، ثم تركه في البقية؛ حيث رأى الترك أولى، لاسيما والترك آخر الأمرين، أو اكتفى عن الإشعار بالتقليد؛ لأنه يسد مسده في المعنى المطلوب منه، والإشعار يجهد البدنة.