فذهب جمع إلى أن معناه التفرق بالأبدان؛ فأثبتوا لهما خيار المجلس، وقالوا: سمماها المتبايعين، وهما المتعاقدان؛ لأن البيع من الأسماء المشنقة من أفعال الفاعلين، وهي لا تقع في الحقيقة إلا بعد حصول الفعل منهم، وليس بعد العقد تفرق إلا التميز بالأبدان.
وذكروا عن بعض أهل اللغة: أن التفرق: ما كان بالأبدان، والافتراق ما كان بالكلام,
وذهب آخرون: إلى أنهما إذا تعاقدا، صح السع، ولا خيار لهما إلا أن يشترطا، وقالوا: الراد من التفرق: هو التفرق بالأقوال، ونظير ذلك من كتاب الله سبحانه وتعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} ومن المعلوم أن الزوج إذا طلق امرأته على مال، فقبلت ذلك، حصل التفرق بينهما بذلك، وإن لم يتفرقا بأبدانهما.
ثم إن التفرق بالأبدان ليس له حد محدود يعلم.
وأما تسميتهما بالمتبايعين: فيصح أن يكون بمعني المتساومين، وهو باب تسمية الشيء بما يئول إليه، أو يقرب منه
، وفي الحديث: (لا يبع أحدكم على بيع أخيه) على صحة مذهبه، فقال: حقيقة (المتبايعان) التشاغلان بالبيع وذلك يكون قبل تمام البيع كقولك: المتقاتلان والمتضاربان وبعد انقضاء البيع، يقال لهما: المتبايعان، على المجاز والعبرةبها إذا اجتمعت مع المجاز؛ والمعبرة بها إذا اجتمعت مع المجاز؛ واستدلوا بقول - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يخل له ان يفارق صاحبه خشية؟ أن يستقبله)؛ رواه عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - والحديث بتمامه أورده المؤلف في (الحسان) من هذا الباب.
واستدل على أهل هذه المقالة من خالفهم بما رؤى عن نافع في بعض طرق هذا الحديث: (فكان ابن عمر إذا بايع رجلا، فأراد ألا يقيله، قام فمشي هنيهة، ثم رجع إليه) فقالوا: نرى أن ابن عمر اشتب عليه حكم التفرق: أهو بالأبدان أم بالأقوال؟ فصنع صنيعه ذلك؛ احتياطا.
قلت: ومما يصح أن يكون سنادا لقولهم، ومؤيدا له أن هذا الحديث رواه جماعة عن نافع، منهم مالك ابن أنس، وهو أفقههم وأعلمهم بالحديث، لاسيما بحديث نافع عن ابن عمر، ولم ير مالك الخيار بعد تمام العقد، ولم يكن ليتهم نفسه، ولا ليتهم نافعا، وحاشاه أن يتهم أحدا من الصحابة فيما يرويه، فلو لم ير تأويل (٨٣) الحديث على مصداق قوله، لم يذهب إلى ما ذهب، ولم يكن ليخالف حديثا صح عنده.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا بيع الخيار):
المراد منه عند من لا يرى خيار المجلس: خيار الشرط، وقد أنكر الخطابي على هذا التأويل (والجرح) القول بفساده، وقال: (الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، والأول إثبات الخيار؛ فلا يجوز أن يكون ما استثني عنه إثباتا بمثله)؛ وكأن هذا القول صدر عنه من غير روية؛ لأن في قوله: (ما لم يتفرقا).