الاحتمال الأول: يبيِّن الله تعالى فضل القرآن الكريم على سائر الكتب السماوية المنزلة:
(ولو أن قرآنًا) من الكتب المنزلة (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) فتحركت به من أماكنها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) وتشققت من خشية الله فصارت أنهارًا وعيونًا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) لكان هذا القرآن من عظمته وإعجازه.
الاحتمال الثاني: لكفروا بالرحمن ولما اهتدوا، ولزادهم ذلك الإعجاز كفرًا وتكذيبًا.
(بل لله الأمر جميعًا) أي: لكنه يأتي بالآيات التي تقتضيها حكمته وإرادته وحكمه.
(أفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) أي: فليعلم الذين آمنوا أن الله قادر على هداية الناس جميعهم، ولكنه يهدي ويضل بمشيئته عدلًا وفضلًا وحكمة.
[(الرعد: ٣٩)]
قال تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ٣٩﴾ [الرعد: ٣٩].
الآية لها معنيان وعليهما كثير من المفسرين:
١ - يمحو من الشرائع والأحكام ما يشاء، فينسخ حكمًا بآخر؛ كما نسخ اتجاه القبلة، ونسخ عِدّة المتوفّى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام.
وهذا المعنى متعلّق بالآية التي قبلها: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: ٣٨] فالله تعالى هو الذي يأتي بالآية والحكم الذي يناسب كل وقت، ويمحو ما يشاء ويشرّع ما يشاء، وما قضاه الله من حكم فإنه يأتي في وقته الذي حدَّده له، وليس لأحد أن يعجّل أو يؤخّر منه شيئًا.
٢ - يمحو الله تعالى ما يشاء ويثبت من المقادير بعامة، والآجال والأرزاق التي بأيدي الملائكة وليس في أم الكتاب، وهي ما يسمى بالقضاء المنزّل أو المعلّق.
والمحو والإثبات بناء على الأسباب والأعمال، وما تقتضيه حكمته وعدله وفضله ﷾: فيرزق خلقًا ويمحو من الزيادة في الرزق آخرين، ويشفي مريضًا ويمحو من الشفاء آخرين، ويفك أسيرًا ويمحو من الفكاك آخرين، يمحو سيئات التائب ويثبت بدلًا منها الحسنات، يمحو نور القمر ويثبت ضوء الشمس.
وهكذا فهو سبحانه كل يوم في شأن: يفرِّج كربًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويغفر ذنبًا …
وقوله تعالى: (وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ) أي: اللوح المحفوظ عنده ﷾، وفيه القضاء المُبرَم فلا يمحو منه ولا يبدل ولا يغيّر. انظر: قطف الجنى الداني شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لعبد المحسن العباد (١٠١).