للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢ - ما يحده كل واحد منا من نفسه من الزيادة والنمو بسبب السمن، ومن النقصان والذبول بسبب الهزال، ثم إنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن.

وإذا ثبت هذا فنقول: ما جاز تكوّن بعضه لم يمتنع أيضاً تكوّن كله، ولما ثبت ذلك ظهر أن الإعادة غير ممتنعة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١)} [الواقعة:٦١].

فهذه الأمور وغيرها، تدل على أن القول بالمعاد، وحصول الحشر والنشر غير مستبعد في العقول، مع القول بأن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين:

أحدهما: أن يقال: إن مثله ممكن، فوجب أن يكون هذا أيضاً ممكنا.

والثاني: أن يقال: إن ما هو أعظم منه وأعلى حالاً منه، فهو أيضاً ممكن.

وكلا الطريقين مبين في القرآن الكريم بأوضح بيان، وأكمل برهان.

على أنه لو لم يحصل للإنسان معاد، لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات في المنزلة والشرف، واللازم باطل، فالملزوم مثله، وذلك أن مضار الإنسان في الدنيا أكثر من مضار جميع الحيوانات، فإن سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام والأسقام، تكون فارغة البال، طيبة النفس، لأنها ليس لها فكر وتأمل أما الإنسان فإنه بسبب ما يحصل له من العقل يتفكر أبداً في الأقوال الماضية والأقوال المستقبلة، فيحصل له بسبب أكثر الأحوال الماضية أنواع من الحزن والأسف، ويحصل له بسبب أكثر الأحوال الآتية أنواع من الخوف، فلو لم يحصل للإنسان معاد به تكمل حلته، وتظهر سعادته، لوجب أن يكون كمال العقل سبباً لمزيد من الهموم والغموم والأحزان من غير جابر يجبر، ومعلوم أن كل ما كان كذلك، فإنه يكون سبباً لمزيد الخسة والدناءة والشقاء والتعب الخالية عن المنفعة.

فثبت أنه لولا حصول السعادة الأخروية لكان الإنسان أخس الحيوانات ولما كان ذلك باطلاً قطعاً، علمنا أنه لا بد من الدار الآخرة، وأن الإنسان خلق للدار الآخرة لا للدنيا، وأنه بعقله يكتسب موجبات السعادات الأخروية، فلهذا السبب كان العقل شريفاً (١).


(١) الرازي: مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط ٣ ١٤٢٠ هـ (١٧/ ١٩٨).

<<  <   >  >>