للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقول ابن الجوزي: «وَالْمَعْنَى: لَزِمَهَا بِحَمْلِهَا إِيَّاهُ أَنْ تَضْعُفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ» (١).

وقوله سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: ١٤]: لا شك أن الأم عانت عامين كاملين معاناة شديدة لتتم له الرضاع إحسانًا إليه حال ضعفه يتغذى من لبنها لتتم له القوة ويشتد بذلك عوده ويقوى صلبه، وهي تعاني بذلك الضعف والوهن والجهد أشده، وفي ذلك تذكير للإنسان بعظيم حقها وجليل قدرها.

يقول ابن كثير: «وَقَوْلُهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: ١٤] أَيْ: تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: ٢٣٣]، وَمِنْ هَا هُنَا اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: ١٥] «(٢).

من هنا يتبين لنا لماذا أكَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- للسَّائل حق الأم ثلاثًا، و أنها أحقّ النَّاس وأولاهم بحسن الصُّحبة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ النَّاس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «أمك»، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «أمك»، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «ثُمَّ أبوك» (٣).

ذلك لِمَا ذاقت هذه الأم الشَّفيقة البرّة الرَّفيقة الرحيمة من أنواع الآلام مدة الحمل، وقاست ما قاست من الشَّدائد وقت المخاض والوضع، ثُمَّ أضعفت قوتها بالرَّضاع حولين كاملين، وحملت تارة في البطن، وأخرى على الصَّدر، وثالثة على اليدين، وباتت عند مرض الطِّفل ساهرة، جائعة، حزينة، باكية، متألمة، لا تزال تفتأ تسأل لابنها الشِّفاء والتَّمتُّع بطول العُمُر في


(١) ابن الجوزي (٦/ ٣١٩).
(٢) ابن كثير (٦/ ٣٣٧).
(٣) أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب، باب مَنْ أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة (من الفتح). (٥٥٢٤)، كتاب الأدب: باب من أحق الناس بحسن صحابتي.

<<  <   >  >>