للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومما سبق يتبين أن مفهوم غض الصوت عند أئمة التفسير هو: خفضه وانقاصه وتقليله عن الحد الزائد عما يألفه أهل الطباع السليمة والفطر السوية، وعدم الجهر به والتكلف في رفعه عن المألوف، ولا يرُفع إلا عند الحاجة وبالقدر الذي لا يؤذي السامعَ ولا يُنَفِّرُ الجليسَ، ولا يَخرُجُ عن مجلسه ومحيطه الذي هو فيه. وأن خفض الصوت دلالة على أدب صاحبه وحسن خلقه مع من يخاطبه. وحول هذا المعنى يقول ابن سعدي: «{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: ١٩] أدبًا مع الناس ومع الله» (١).

وهذا ما عناه لقمان وقصده في موعظته لولده، أراد له التحلي بتمام الأدب مع الله تعالى أولًا ثم بمكارم الأخلاق مع عباده ثانيًا، ليختم له مواعظه بتلك الحلية التي يتزين بها في تعامله مع الناس، وإن حقيقة التأدب مع المخلوق إنما هو تأدب مع الخالق سبحانه.

وهذا هو خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-: فعن عبد الله الجدلي قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: «لم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» (٢).

قال المباركفوري: «قوله: (ولا صخابًا) أي: صيّاحًا» (٣).

يقول السيوطي: «فعلى الإنسان ألَّا يبالغ في الجهر إلا لغرض صحيح، ومنه الأذان والإنذار من العدو، لأن رفع الصوت في مواطن القتال يفت في أعضاد العدو. والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يعجبه أن يكون الرجل خافض الصوت، ويكره أن يكون جهير الصوت، والمبالغة في الجهر تشوه الوجه، وتذهب بهاؤه، وتركه أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه» (٤).


(١) ابن سعدي (٦/ ١٣٥٣).
(٢) أخرجه الترمذي (٢٠١٦)، وصححه الألباني في الشمائل (٢٩٨).
(٣) تحفة الأحوذي (جـ ٥) (ص ٢٦٨).
(٤) الدر المنثور (جـ ٨) (ص ٢٧٤).

<<  <   >  >>