وَاعْلَمُوا أَن الدَّهْر حاملكم على طَبَقَات: مِنْهُنَّ حَال السخاء حَتَّى تَدْنُو من السَّرف، ومنهن حَال التَّقْدِير حَتَّى تقرب من الْبُخْل، ومنهن حَال الأناة حَتَّى تصير إِلَى البلادة، ومنهن حَال المناهزة للفرصة حَتَّى تدنوا من الخفة، ومنهن حَال الطلاقة فِي اللِّسَان حَتَّى تَدْنُو من الهذر، ومنهن حَال الْأَخْذ بِحكم الصمت حَتَّى تَدْنُو من العي. فالملك مِنْكُم جدير أَن يبلغ من كل طبقَة من محاسنها حَدهَا، فَإِذا وقف على الْحُدُود الَّتِي وَرَاءَهَا سرف ألْجم نَفسه عَمَّا وَرَاءَهَا. وَاعْلَمُوا أَن الْملك مِنْكُم ستعرض لَهُ شهوات فِي غير ساعاتها، وَالْملك إِذا قدّر سَاعَة الْعَمَل، وَسَاعَة الْفَرَاغ وَسَاعَة المشرب، وَسَاعَة الْمطعم، وَسَاعَة الفضلة، وَسَاعَة اللَّهْو، كَانَ جَدِيرًا أَلا يعرف مِنْهُ الاستقدام بالأمور وَلَا الاستئخار بهَا عَن ساعاتها، فَإِن اخْتِلَاف ذَلِك يُورث مضرتين: إِحْدَاهمَا، السخف، وَهِي أَشد الْأَمريْنِ، وَالْأُخْرَى، نقض الْجَسَد بِنَقْض أقواته وحركاته. وَاعْلَمُوا أَن من ملوككم من سَيَقُولُ: لي الْفضل على من كَانَ من قبلي من آبَائِي وعمومتي وَمن ورثت عَنهُ هَذَا الْأَمر؛ لبَعض الْإِحْسَان يكون مِنْهُ، فَإِذا قَالَ ذَلِك سوعد عَلَيْهِ بالمتابعة لَهُ، فَليعلم ذَلِك الْملك أَنه والمتابعين لَهُ إِنَّمَا وضعُوا أَيْديهم وألسنتهم فِي قصب آبَائِهِ من الْمُلُوك وهم لَا يَشْعُرُونَ، وبالحري أَن يشْعر بعض المتابعين لَهُ فيغمض على مَا لَا يحزنهُ من ذَلِك. وَاعْلَمُوا أَن ابْن الْملك وأخاه وَابْن أَخِيه وَعَمه وَابْن عَمه يَقُول: كدت أكون ملكا، وبالحري أَلا أَمُوت حَتَّى أكون ملكا، فَإِذا قَالَ ذَلِك قَالَ مَا لَا يسر الْملك، فَإِن كتمه " فالداء فِي كل مَكْتُوم " وَإِن أظهره كلم ذَلِك فِي قلب الْملك كلما يكون لقاحاً للتباين والتعادي، وسيجد ذَلِك الْقَائِل، من المتابعين والمحتملين والمنمنمين مَا تمنى لنَفسِهِ مَا يزِيدهُ إِلَى مَا اشتاق إِلَيْهِ شوقاً، فَإِذا تمكن فِي صَدره الأمل لم يرج النّيل إِلَّا فِي اضْطِرَاب من الْحِيَل وزعزة تدخل على الْملك وَأهل المملكة، فَإِذا تمنى ذَلِك فقد جعل الْفساد سلّماً إِلَى الصّلاح، وَلم يكن الْفساد سلّماً إِلَى صَلَاح قطّ: وَقد رسمت لكم فِي ذَلِك مِثَالا لَا مخرج لكم من هَذَا إِلَّا بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute