للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُوِيَ أَن عبد الْملك قَالَ حِين ثقل وَرَأى غسالاً يلوي ثوبا بِيَدِهِ: وددت أَنِّي كنت غسالاً لَا أعيش إِلَّا بِمَا أكسب يَوْمًا فيوماً فَذكر ذَلِك لأبي حَازِم فَقَالَ: " الْحَمد لله الَّذِي جعلهم عِنْد الْمَوْت يتمنون مَا نَحن فِيهِ، وَلَا نتمنى عِنْد الْمَوْت مَا هم فِيهِ ". كَانَ الرّبيع بن خشيم إِذا قيل لَهُ: كَيفَ أَصبَحت أَبَا يزِيد؟ قَالَ: مذنبين نَأْكُل أرزاقنا وَنَنْظُر آجالنا. قَالَ بعض الْمُلُوك لبَعض الزهاد: اذمم الدُّنْيَا، فَقَالَ: أَيهَا الْملك، هِيَ الآخذة لما تُعطي، الموّرثة بعد ذَلِك النَّدَم، السالبة مَا تكسو، الوارثة بعد ذَلِك الفضوح، تسد بالأراذل مَكَان الأفاضل، والعجزة مَكَان الحزمة، تَجِد فِي كل من كل خلفا، وترضى بِكُل من كل بَدَلا، تُسكن دَار كل قرن قرنا، وتُطعم سُؤْر كل قوم قوما. ذكر أَنه كَانَ للنعمان بن الْمُنْذر إخْوَة ثَلَاثَة يُقَال لأَحَدهم: مَالك، وَللْآخر عَمْرو، هُوَ محرّق، وَالثَّالِث عَلْقَمَة، وَكَانَ مَالك ذَا فضل بيّن، وَرَأى جزل، فَهَلَك مَالك فأعظم ذَلِك عَمْرو وكربه - وَكَانَ عَمْرو مرجوّاً عِنْد عَامَّة مَمْلَكَته لبوائق الدَّهْر، وحوادث الْأَيَّام - فَلَمَّا رأى الْمُنْذر بن النُّعْمَان بن الْمُنْذر مَا بِعَمِّهِ عَمْرو من الوجد على مَالك أفظعه ذَلِك وكربه، وكسف باله وَغير حَاله، وَدخل عَلَيْهِ من ذَلِك مَا كَاد أَن يكون شبيهاًَ بِمَوْت مَالك فَسَأَلَ الْمُنْذر بن النُّعْمَان أَبَاهُ أَن يجمع لَهُ رُؤَسَاء أهل مَمْلَكَته وعلماءهم وخطباءهم وحلماءهم وَذَوي الشّرف مِنْهُم، ثمَّ يَأْذَن لَهُ فِي الْكَلَام وَالْقِيَام فِي أَمر مَالك، والتعزية بِعَمِّهِ. فَأَجَابَهُ أَبوهُ النُّعْمَان إِلَى ذَلِك، وَأَعْجَبهُ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا توافت الرِّجَال احتفل النُّعْمَان - يَعْنِي حفّل الْمجْلس، وحشدهم، وأنزلهم على قدر مَنَازِلهمْ - فَلَمَّا أخذُوا مجَالِسهمْ قَامَ الْمُنْذر ابْن النُّعْمَان فثنيت لَهُ نمرقة الشّرف على مِنْبَر الْكَرَامَة عَن يَمِين النُّعْمَان - وَهُوَ كَبِير الْمُتَكَلِّمين فِي جسيم الْأُمُور - فَرفع صَوته فَقَالَ: يَا عَمْرو، يَا ابْن ثَمَرَة الرَّأْي ومعدن الْملك، إِنَّمَا الْخلق للخالق، وَالشُّكْر للمنعم، وَالتَّسْلِيم للقادر، وَلَا بُد مِمَّا هُوَ كَائِن.

<<  <  ج: ص:  >  >>