للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَا عَمْرو، إِنَّه لَا أَضْعَف من مَخْلُوق، وَلَا أقوى من خَالق، وَلَا أقوى مِمَّن طلبته فِي يَدَيْهِ، وَلَا أعجز مِمَّن هُوَ فِي يَد طَالبه. يَا عَمْرو، إِن التفكر نور، والغفلة ظلمَة والجهالة ضَلَالَة، وَقد ورد الأول، وَالْآخر مسوق متعبد، وَفِي الأسى عزاء، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ. يَا عَمْرو، إِنَّه قد جَاءَك مَا لَا يرد، وَذهب عَنْك مَا لَيْسَ براجع، فَمَا الْحِيلَة لبَقَاء مَا سيذهب؟ . يَا عَمْرو، إِنَّمَا الشَّيْء من مثله، وَقد مَضَت قبلنَا أصُول نَحن فروعها، فَمَا بَقَاء فرع بعد أَصله. يَا عَمْرو، انْظُر إِلَى طَبَقَات حالاتك من لدن فِي صلب أَبِيك إِلَى أَن بلغت منزلَة الشّرف، وحد الْعقل، وَغَايَة الْكَرَامَة، فَهَل قدرت - أَو قدرُوا - على أَن ينقلوك أَو تنْتَقل عَن طبقَة قبل انْقِضَائِهَا، أَو بتعجيل نعْمَة قبل أَوَان تحيّنها؟ وَانْظُر إِلَى آبَائِك الَّذين كَانُوا أهل الْملك والأخلاق المحمودة، هَل وجدوا سَبِيلا - أَو وجدت لَهُم - إِلَى بَقَاء مَا أحبّوا أَو بقوا بعده؟ . يَا عَمْرو، فلأي أَيَّام الدَّهْر ترتجي؟ أيوم لَا يَجِيء بِمَا فِي غَيره، أَو يَوْم لَا يسْتَأْخر مَا فِيهِ عَن أَوَان مَجِيئه؟ وَانْظُر إِلَى الدَّهْر تَجدهُ أَيَّامًا ثَلَاثَة: يَوْمًا مضى لَا ترجوه، وَيَوْما بَقِي لَا بُد مِنْهُ، وَيَوْما يَأْتِي لَا تأمنه. يَا عَمْرو أمس موعظة، وَالْيَوْم غنيمَة، وَغدا لَا تَدْرِي من أَهله: فأمس شَاهد مَقْبُول شَهَادَته، وَحَكِيم مؤدب، قد فجعك بِنَفسِهِ، وخلّف فِي يَديك حكمته؛ وَالْيَوْم صديق مودّع، كَانَ طَوِيل الْغَيْبَة، وَهُوَ سريع الظعن، أَتَاك وَلم تأته، وَقد مضى قبله شَاهد عدل، فَإِن كَانَ مَا فِيهِ لَك فَأتبعهُ بِمثلِهِ، وَاتَّقِ اجْتِمَاع شَهَادَتهمَا عَلَيْك؛ وَغدا يَجِيء بِمَا فِيهِ. يَا عَمْرو، إِن أكمل الأداة الصَّبْر عِنْد المصائب، وَالْيَقِين، فَأَيْنَ الْمَهْرَب مِمَّا هُوَ كَائِن؟ إِنَّمَا تنْقَلب فِي كف الطَّالِب. يَا عَمْرو، إِن أهل هَذِه الدَّار سفر لَا يحلّون عقد الرّحال إِلَّا فِي غَيرهَا، وَإِنَّمَا يتبلغون فِيهَا بالعواري، فَمَا أحسن الشُّكْر للمنعم، وَالتَّسْلِيم للمُعير! .

<<  <  ج: ص:  >  >>