ويكدي أُخْرَى، وَقد قرن الرزق بِسَبَبِهِ، والعيش بالتماس مصْلحَته وبذل الافتقار. مَا كل هفوةٍ تعد ذَنبا، وَلَا كل إِنْكَار يسْتَحق أَن يُسمى عتباً. إخْوَان السوء يَنْصَرِفُونَ عِنْد النكبة، ويقبلون مَعَ النِّعْمَة، وَمن شَأْنهمْ التوسل بالإخلاص والمحبة، إِلَى أَن يظفروا بالأنس والثقة، ثمَّ يوكلون الْأَعْين بالأفعال، والأسماع بالأقوال؛ فَإِن رَأَوْا خيرا ونالوه لم يذكروه وَلم يشكروه، وَعمِلُوا على أَنهم خدعوا صَاحبهمْ وقمروه؛ وَإِن رَأَوْا شرا أَو ظنوه أذاعوه ونشروه؛ فَإِذا أدمت مواصلتهم فَهُوَ الدَّاء المماطل، الْمخوف على الْمقَاتل؛ وَإِن استرحت إِلَى مصارمتهم ادعوا الْخِبْرَة بك لطول الْعشْرَة؛ فَكَانَ كذب حَدِيثهمْ مُصدقا، وباطله محققاً. إِنَّمَا يقتل الْكِبَار الْأَعْدَاء الصغار، الَّذين لَا يخَافُونَ فيتقون. وَلَا يؤبه لَهُم وهم يكيدون. مَا ينفع ولد الْملك من تَأْدِيب المؤدبين إِيَّاه؟ وَهُوَ يَغْدُو وَيروح فيراه على خلاف مَا يَأْمُرهُ بِهِ المؤدبون، وَلم يزل الْبَاطِل على نفوس الرِّجَال أخف محملًا، وَأحلى طعماً؛ فَكيف الصّبيان؟ . الْمُؤَدب يَأْمر الْغُلَام بألا يشْتم أحدا، ويتجنب الْمَحَارِم، وَيحسن خلائقه، ويعلمه من الْفِقْه الْأَبْوَاب الَّتِي لَا غنى بِمُسلم عَن مَعْرفَتهَا، وَمن الشّعْر الشَّاهِد والمثل، وَمن الْإِعْرَاب مَا يصلح لَهُ لَفظه، وَمن الْغَزل أعفه. وَهُوَ يرى أَبَاهُ فِي كل ساعةٍ بِخِلَاف مَا يُؤمر بِهِ، وتاركاً لما حض عَلَيْهِ؛ حَتَّى إِنَّه ليستثقل اللَّفْظَة تجْرِي فِي مَجْلِسه بإعراب ويصد عَن منشدٍ لبين شعر، وَلَا يُخَاطب غُلَامه وَلَا يمازح جليسه إِلَّا بالشتم واللعنة، وَلَا يحتشم من وُرُود محرمٍ، وَلَا يَتَّقِي كَبِيرَة؛ ثمَّ يرَاهُ مَعَ ذَلِك وَقد بلغ غَايَة آماله من الدُّنْيَا؛ فيوشك أَن يحدث نَفسه بِأَن أَبَاهُ لَا يَخْلُو من أَن يكون علم مَا يسام فَاطْرَحْهُ، وَرَأى أَنه لَا خير فِيهِ، أَو لم يعلم شَيْئا من ذَلِك فَلم يضرّهُ جَهله إِيَّاه، وَلَا صرف عَنهُ حظاً من دُنْيَاهُ، وكلا الْمَعْنيين مزهدٌ لَهُ فِي قبُول الْأَدَب، ومزينٌ لَهُ ترك عنائه، وَربح تَعبه فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute