للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والرياء قد يجعل صاحبه محلّ سخرية الناس وهزئهم، فقد تناقل العلماء في كتبهم حكايات المرائين، وتندروا بها، حكى الأصمعي أنَّ أعرابيا صلى فأطال، وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك! فقال: وأنا مع ذلك صائم (١).

فانظر إلى هذا المسكين الذي أراد العباد بعبادته، كيف ترك صلاته عندما سمع حمد الناس، ليظهر لهم أمرا آخر من عبادته لا يعلمونه، وهو الصوم، فكيف أصبح في نظر هؤلاء؟ لقد سمعه أعرابي آخر حاضر المجلس فأنشد قائلا:

صلى فأعجبني وصام فرابني ... نح القلوص عن المصلي الصائم

وقال الماوردي معقبا على هذه القصة "فانظر إلى هذا الرياء ما أقبحه! وما أدله على سخف عقل صاحبه"! (٢).

وذكر العلماء على سبيل التندر أن طاهر بن الحسين (٣) قال لأبي عند الله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عند الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة، وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال له مبكّتًا: يا أبا عند الله سألتك عن مسألة، فأجبت عن مسألتين (٤) ... ! أين حال هذين من حال الأشعث بن قيس (٥) عندما خفَّف صلاته مرة، فقال له أهل المسجد: خففت صلاتك جدا؟ فقال: إنه لم يخالطها رياء. فتخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، ورفع التصنع في صلاته (٦).

وأين حال هذين من حال عمر بن الخطاب وقد أحسَّ على المنبر بريح خرجت


(١) أدب الدنيا والدين ص ٩٥، تفسير القرطبي ١١/ ٧١.
(٢) أدب الدنيا والدين ص ٩٥.
(٣) هو طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعي من كبار الوزراء والقواد، وهو الذي وطد الملك للمأمون بعد قتله للأمين، مات قتيلا عام (٢٠٧ هـ).
(٤) أدب الدنيا والدين ص ٩٥، تفسير القرطبي (١١/ ٧١).
(٥) هو الأشعت بن قيس الكندي أمير كنده في الجاهلية والإسلام، كان مقيما في حضرموت، قدم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جمع من قومه، فأسلم وشهد اليرموك، فأصيبت عينه، ميلاده في (٢٣) قبل الهجرة، ووفاته سنة (٤٠ هـ)، راجع: (تهذيب التهذيب ١/ ٣٥٩)، (الكاشف ١/ ١٣٥)، (خلاصة تذهيب الكمال ١/ ١٠٠).
(٦) أدب الدنيا والدين ص ٩٥، تفسير القرطبي ١١/ ٧١.

<<  <   >  >>