كتاب مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين

٢ - التجرد عن الميول والنزعات الفطرية - محاربة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهذا الاتجاه - ص: 396

[محاربة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهذا الاتجاه]

لقد قاوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الاتجاه في أفضل صوره وأعلى مراتبه، فقد حاول بعض الصحابة أن يتبتل، وآخرون حاولوا الهروب إلى الجبال كي يعبدوا الله، ولكنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- رفض ذلك رفضًا كليًّا، وعنّف الذين أرادوه، وبيّن لهم ما فيه من تضييع لما هو أفضل منه، وبين أنّه مناف لسنته وطريقته، وقد جمع ابن الأثير (١) هذه الأحاديث تحت باب: "الاقتصاد والاقتصار في الأعمال"، وسأسوق طرفا منها يتضح به المقصود إن شاء الله تعالى.

فقد ذكر أنَّ البخاريَّ ومسلما رويا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه "جاء ثلاثة رهْطٍ (٢) إِلى بيوتِ أزواج النبيّ -صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلم- يسألون عن عِبادة النبِي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَما أخبروا، كَأَنهم تقالُّوها (٣). قالوا: فأين نحن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبدًا.

فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: "أَنْتُمْ الذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَالله إِنّي لَأخشاكمْ لله، وأَتْقَاكمْ له، وَلَكِني أَصُومُ وَأفْطِرُ، وَأصلي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوّج النسَاءَ، فمَنْ رَغِبَ عِنْ سنتي فلَيسَ مِنّي" (٤).

ونقل عن أبي داود في سننه أنه أخرج عن عائشة قالت: "بعث رسول الله -

---

(١) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، المحدث اللغوي الأصولي ولد فى جزيرة ابن عمر سنة (٥٤٤ هـ)، ونشأ بها، ثم انتقل إلي الموصل وتوفي بها سنة (٦٠٦ هـ)، من كتبه المطبوعة (جامع الأصول في أحاديث الرسول).
راجع: (وفيات الأعيان ١/ ٤٤١)، (بغية الوعاة ٢/ ٢٧٤)، (شذرات الذهب ٥/ ٢٢).
(٢) الرَّهط: ما دون العشرة من الرحال لا يكون فيهم امرأة (مختار الصحاح).
(٣) تقالُّوها: التقال: تفاعل من القلة، كأنهم استقلّوا ذلك لأنفسهم من الفعل، فأرادوا أن يكثروا منه.
(٤) جامع الأصول ١/ ٢٠٠.